ابحث في مدونتي

السبت، 19 أغسطس 2017

القراءة.. ليست متعة



 




قد يستثير عنوان المقال الكثير من محبي القراءة الذين يمارسونها بشغف، وأولئك الذين تستنقذهم هذه العادة الفاتنة من قمقم الحزن أو اليأس أو من براثن الملل وقطعا الجهل لكن .. أجد أن أغلب المتحدثين عن والمؤمنين بـ ضرورة القراءة يتحدثون عنها كفاتنة خطفت قلبهم أو عروس يدفعون لكسب ودها وقتهم وأموالهم وجهدهم، بينما في الواقع فالقراءة تعد جهدا ذهنيا لا يقل عن بقية الجهود الذهنية التي يبذلها الإنسان والتي قد تتسبب له بالتعب والارهاق إضافة للمتعة وقد يشعر أحيانا اتجاهها بالعزوف وبالحاجة حتى للهرب.

ورغم أني أجد أن عادة القراءة أو هواية القراءة تنتشر إلى حد ما بين مختلف الأعمار والفئات من الناس حولي، إلا أنه وبكل تأكيد لا زال هناك جمع كبير إما يجد أن القراءة مشقة لا يقوى على بذلها أو أنها عروس لا يملك دفع مهرها "الوقت والمال" خصوصا وأن البعيدين عن جو القراءة عموما بعيدين -في تصوري- عن سحر القراءة الالكترونية التي توفر المال كما أنها تُمارس بمرونة أكبر من تصفح كتاب.

لذلك فدائما ما يحضر بذهني هذا السؤال:

كيف يتلقى أولئك الأشخاص الذين يجدون في القراءة مشقة وجهدا مكلفا، كيف يتلقون الغزل العفيف والصريح -والذي بدأ في الانتشار كثيرا-حول ممارسة القراءة؟! هل يُحفّزهم ليقتحموا هذا العالم باصرار؟أم أن هناك فئات يزيدها الغزل الدائم في القراءة نفورا وشعورا بالغربة معها؟خصوصا حين يجربون ممارستها فلا يجدون فيها إلا سلبا للوقت والجهد وجاذبا للملل وربما الوحدة على عكس ما ملئنا أسماعهم؟!

أؤمن كثيرا اننا نحتاج دائما لتوضيح كل جوانب الصورة في الحديث عن قضية ما أيا كانت والقراءة ليست استثناء..

القراءة ضرورة يجد البعض في ممارستها نوع من تحقيق الذات وضرورة لبنائها ومتعة أثناء ممارستها، تنقذهم من جلسات الحديث اللاهي وتبعدهم عن ساعات الحزن والملل وتأنس وحدتهم وتسكت ألمهم وتشغل أوقاتهم الضائعة بما يفيد لكن .. هناك من يجد أيضا أن القراءة جهد لا بد أن يبذله لذلك فهو يحث نفسه على ممارستها ارغاما لها من أجل تعليمها وتحصينها من الجهل، وقد يقع أحيانا فريسة الملل من القراءة أو الحيرة فيما يقرأ أو فريسة للشعور بالذنب لأنه يقرأ ما لا يجب أن يقرأه ويترك ما يتحتم عليه أن يقرأه.. للقراءة جانبان جانب متعة وجانب مشقة تماما كما كل العادات والأعمال والهوايات الأخرى.


عزيزي / عزيزتي

أيها الإنسان الذي سمعتَ كثيرا أن القراءة بانية الناس والأوطان وأنها عروس لا يكسب ودها إلا بشر من نوع خاص جدا .. ليست الصورة بهذه الدقة

ان القراءة عمل ضروري يحث الإنسان نفسه ليمارسه مهما كبده من مشقة وتعب ومتعة ذلك أن القراءة اليوم هي وسيلة الإنسان للتعلم كما هو واقع الذهاب للمدرسة والجامعة فهل كنا نعشق المدرسة بكل فصولها ومراحلها ومواقعها؟أم كثيرا ما وجدنا أنفسنا مدفوعين اتجاهها لانها وسيلة أساسية لتحصيل العلم؟ هل عشقنا كل مادة تعليمية؟أو كلنا كنا نحب الرسم في حصة الفن؟أو نعشق الركض في حصة الرياضة؟ أم كلنا كنا نستمتع بمسك الابرة في حصة التدبير المنزلي؟! هذا فضلا عن بقية المواد الأساسية التي كبدتنا التعب من أجل تحصيلها.
 
الفارق الحقيقي أننا لم نكن نختار موادنا التعليمية بينما يمكننا اليوم اختيار تخصص نعشقه أكثر من آخر لنقرأ عنه وان لم نقتصر عليه، ميزة القراءة أنها تجيب عن تساؤلاتك أنت لا المنهج الدراسي، تلبي حاجاتك أنت لا رؤية وزارة التعليم في بلدك، تعلمك بطريقتك أنت لا بطريقة معلم الفصل في مدرستك وهنا يكمن سر القراءة الساحر.

تبقى جنبة مهمة جدا؛ نعم القراءة وسيلة مهمة لتعليم النفس وتثقيفها والاجابة عن اسئلتها لكنها حتما ليست الوسيلة الوحيدة، ان كان الهدف من القراءة تحصيل العلم حول تخصص ما فاليوم تتوفر الكثير من السبل لتحقيق ذلك؛ ورش تعليمية وأفلام وثائقية وصالونات ثقافية ومقالات قصيرة وبشر محبين لنشر العلم مستعدين للاجابة والمناقشة، يمكنك من خلال كل تلك الوسائل أن تمارس القليل من القراءة اضافة لتلك السبل لتحقق الهدف الأساس منها؛ بناء الانسان الفكري والنفسي ووو .. وان كان الهدف من القراءة المتعة الهادفة فلن تعدمك السبل الكثيرة أيضا فقط ضع نصب عينيك هذا الهدف; (أن أتولى تعليم نفسي ما حييت) وسوف تجد السبيل المناسب لك والذي يتوافق مع ميولك ومزاجك وظروفك ووقتك وقدرتك المادية لكن أرجوك، حين تجد أن القراءة ليست فاتنة ممشوقة القوام كما ندعي نحن المتشدقون بذلك، فثق في رأيك وامضغها كدواء مر في سبيل الوقاية واتخذ سبل العلاج التي حاولنا طرق بعض أنواعها في الأعلى لكن لا تتخلى مسؤوليتك اتجاه نفسك وأسرتك ومجتمعك  وقبلها اتجاه من أهداك اياها.. وواصل بناء ذاتك بالقراءة وبكل السبل المتاحة.


قراءة ممتعة 🌸

الجمعة، 4 أغسطس 2017

مقال سابق: عندما يكون الاصلاح ابداعا

لبنان.. بلد التعدد الثقافي والعرقي والديني، البلد الذي يقطنه مسيحيون ودروز،  ومسلمون سنة وشيعة، وبحسب بعض المصادر، يصل عدد الطوائف المعترف فيها  والتي ينتمي لها اللبنانيون لثمانية عشر طائفة.
 
يُقال أنَّ في لبنان لكل أمرٍ بُعْد طائفي ومناطقي، وكان الفقر أحد هذه الأمور، إذ ولفترة طويلة كان يعاني شيعة لبنان، من حالة الفقر والعوز والحرمان، بل والتهميش وسوء التمثيل لدرجة العدم أحيانًا، في مختلف مؤسسات وقطاعات الدولة، حتى أنَّ نسبة الأمية كانت تزداد عند الشيعة دون غيرهم، وكان الفقر حالة سياسية يعيشها الشيعة هناك.
 
إنَّ الواقع الشيعي الغارق في الفقر والتهميش، أوجَد مجموعات شبابية طامحة للتغيير، ونتيجة للفراغ  السياسي الذي تركته الطائفة الشيعية في لبنان، أو أُجبرت على تركه، فقد ارتمى الكثير منهم في عمق الأحزاب اليسارية الفاعلة آنذاك.
 
إنّ الكثير من اللبنانيين والمتابعين للشأن اللبناني، يعتبرون عودة الإمام السيد موسى الصدر للبنان عام ١٩٦٠م – وهو ابنها الذي هاجر أجداده منها نتيجة الاضطهاد وعمليات التصفية ضد الشيعة فوُلد وتعلَّم ونشأ في إيران – مرحلة فاصلة في حياة شيعة لبنان بل كل لبنان والمنطقة، إذ إختار هذا الرجل أن يُغير واقع بلده ومجتمعه ربما للأبد.
 
فاجأني وأنا أتتبع حياة هذا الرجل وعمله، أنّه في بداية وجوده مقيمًا في المجتمع اللبناني، لم يكن رجلًا سياسيًا، ولم يتجه للعمل السياسي المباشر بدءًا، إذ أنَّ دخوله للمعترك السياسي، كان نتيجة حتمية لاهتمامه بالإنسان والوطن اللبناني.
 
لقد تركَّز عمله على تغيير الواقع الاجتماعي، الذي يمتلئ فقرًا وجهلًا وحرمانًا، فأنشأ حركة المحرومين التي عَمِلت على قلب حالة العوز الاجتماعي، وزرع الثقة والأمل في روح الإنسان اللبناني عامة والشيعي خاصة. 
 
كان من أوائل أعماله في مجتمعه هو المبادرة لحل النزاع بين المتخاصمين، دون اللجوء للمحاكم المدنية الرسمية. فكان يحكم بإعادة حق اغتصبه أخّ من أخيه بناءً على الوثائق إن وُجدت، وعلى حكم الإسلام وشهادة الشهود، مُنهيًا الأمر في أغلب الأوقات، مع مسحة صفاء بين المتخاصمين.
كما عَمِد إلى القضاء على ظاهرة التسول في مجتمعه، ليس عبر إصدار فتوى تُحرِّم التسول وتدعو لمواجهته، بل عبر عمل دراسة دقيقة حول المتسوّلين والمتعفّفين لعلاجه:  من هم؟ ما مستوياتهم التعليمية؟ من أي منطقة جاؤوا؟ وهل هناك من هم أكثر عوزًا منهم؟ دراسة شملت كل الطوائف، فأثمرت تلك الدراسة عن مشروع (اشتراك الَّليرة)، وعبر جُباة متخصصين تم جمع ليرة لبنانية واحدة شهريًا من كل متطوع. ومن خلال هذا المشروع وبشكل متدرج تم خلق العديد من المشاريع فكانت الثمرة القضاء على ظاهرة التسول تمامًا في المجتمع الجنوبي اللبناني، دون النظر لطائفة المعوزين، حتى أن المطرَّان غريغوار حداد سعى للقاء الصَّدر على خلفية انبهاره من إنهاء ظاهرة التسول، وذلك من أجل مدّ جسور التعاون وتوسعة الجهود الإنمائية اللاطائفية واللاحزبية واللاخيرية (إيمانًا بأن كل تلك المشاريع إنما هي واجب تجاه الإنسان والمجتمع يسعى للنهوض بالإنسان لا للإحسان إليه) على أكبر مساحة اجتماعية ممكنة. وكان أنَّ تمَّ ذلك حقًا، حتى أطلق المطران جورج خضر على الإمام الصّدر صفة (محب المسيحيين) في إشارة لانفتاحه ولتعاونه وللحب الذي صدّره الصّدر للإنسان على اختلاف انتمائه، ولكل من مدّ يده للنهوض بالمجتمع اللبناني عبر تنمية المؤسسات التي تُعنى بالنهوض بالإنسان عامّة.
 
اهتم الإمام الصدر بالمرأة والشباب والأيتام، فكانت هناك العديد من البرامج والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية والحرفية بل والترفيهية التي احتضنت تلك الفئات.
 
لقد مدَّ الإمام الصّدر يده للإنسان اللبناني عمومًا، وللإنسان المهمش المستضعف بناءً على مذهبه خصوصًا، كالإنسان اللبناني الشيعي، لينتشله من واقع مأساوي لا يرتضيه له منصف، حتى بلغ به ذلك الاهتمام أن اقتحم الميدان السياسي، فكان صاحب فكرة تأسيس المجلس الشيعي الأعلى، أُسوة بالمجالس التي كانت لكل طائفة، لتعنى من خلاله بشؤون أبنائها. ثم كان الرجل الذي وقف أمام محاولات تقسيم لبنان، وإغراقه في حرب أهلية استمرت لأكثر من ١٥ سنة. فوُصف برجل السلام في لبنان نتيجة سعّيه الحثيث لوقف الحرب بين أبناء البلد الواحد، رغم دعوته لاعتبار المجتمع اللبناني مجتمع حرب، ومطالبته الدولة اللبنانية بحماية وتسليح القرى الواقعة على تماس مع الكيان الصهيوني الغاصب، ورغم إصراره على حماية المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، حتى استحقّ في عُرف الموتورين والطّائفيين وأصحاب المصالح الفئوية، أن يُستبعد ويُغّيب عن الواقع اللبناني، بل عن الدنيا بأسّرها!
 
فهل غُيِّب الإمام الصّدر؟
 
إن مشروع الإمام الصّدر الإنمائي والإصلاحي فكرة، والأفكار كما يُقال لا تموت. فرغم الواقع المزري الذي كان يعيشه الإنسان الشيعي في لبنان، ونتيجة الحسابات الطائفية والسياسية، إلاّ أنّ الصّدر تمكّن من خلال رؤية نافذة وعمل جبّار، أنّ يحمل المجتمع الشيعي من أسفل سافلين إلى مقدمة العمل السياسي والاجتماعي، حتى صار شيعة لبنان ونتيجة للعديد من العوامل يتقدّمها (مشروع الصّدر)، من أكثر الطوائف فاعلية في المجتمع اللبناني، وصاروا يتواجدون بقوّة في خارطة لبنان الوطنية. صار شيعة لبنان قوة يخشى كثيرون المساس بها، ولا يتمكنون من تهميشها، بل ربما يلجؤون لها من أجل لبنان أكثر استقرارًا ومنعة، رغم استمرار وتجدّد الكثير من التحديات أمامهم.
 
لم يكن العمل السياسي وحده هو ما أبرز أهمية الوجود الشيعي في عمق المجتمع اللبناني، بل كانت الحركة الإنمائية والإصلاحية الداخلية التي عمل عليها الصّدر لدرجة أنّه حَمل على عاتقه الارتحال شخصيًا لدول أفريقيا التي يقيم فيها لبنانيون أثرياء من أجل تأمين التمويل للعمل الإنمائي الداخلي. فكان له ما أراد بتوفيق من الله، وبإيمان وتكاتف أبناء المجتمع. 
 
نحن هنا مجتمع أكثر تعليمًا، وثقافة وقدرة مادية وبشرية ومعنوية لإجراء عملية إنمائية وإصلاحية داخلية، ثقافية واجتماعية واقتصادية ودينية، تُمسِك بيدنا لترّفعنا لمقدّمة المواجهة السياسية، وغير السياسية الفاعلة، لنكون الطائفة المهمشة التي خرجت من قمقم الاضطهاد لواقع المِنعَة والقوة.. فمتى نبدأ عملية إصلاحنا الداخلية؟
 
 
نشر في
27 ديسمبر 2014
 

مقال سابق: الشكوى لغير الله مذلة

خلق الله البشر متشابهين جِدًّا، إلا إنَّهم مليؤون بالاختلافات، ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم ولهجاتهم، بل أكثر من ذلك إنَّهم مختلفون بأديانهم ومذاهبهم وطرق تعبيرهم وأساليب كلامهم.
 
وكذلك وهب الله الإنسان القدرةَ على تكوين انطباع مبدئي حول إنسان آخر إلتقاه للتو، تحدث معه أو قدَّم له خدمة ما، أيًّا كان لونه وعرقه ولغته.
 
إنَّ الانطباع الأولِّي الذي يكوِّنه الإنسان عن الآخرين، أمر في غاية الأهمية، وعامل مؤثِّر في إمضاء أو فرملة العلاقات الاجتماعية، بل والعملية أحيانًا، فلقاء عابر على بوابة مبنى ما، قد يتحول لصداقة يمتدُّ عمرها لسنوات وأجيال، وكلمة سمعناها صدفةً من مألوف، اعتدنا رؤيته كلَّ يوم، قد تئِد أيَّ إمكانية لتطوير علاقة من أيِّ نوع مع هذا الإنسان.
 
لقد اعتدنا على الاستماع لنصائح وعِبَر، تعظنا أن لا نتسرع في الحكم على الآخرين، وهي نصائح قيّمة ومهمّة، لكنَّنا أيضًا نحتاج ويحتاج الآخرون، أن يكونوا أكفّاء في عكس صورة حقيقية عن أنفسهم، تساهم في تكوين انطباع مبدئي قريب للصحة عن شخصياتهم.
 
إنَّنا في المجتمع الواحد، فضلًا عن تواجدنا في مجتمعات غير مجتمعاتنا، فإنَّنا متشابهون نعيش في بحر لجِّي من الاختلافات، ونحتاج لبناء قوارب تفاهم بيننا وبين الآخرين، لتنتشلنا من دوّامات سوء الظن والضغينة. فكيف نمدّ أيدينا نحو فهم صحيح عن أنفسنا حين نتواجد بين الآخرين؟
 
يقول رسولُ الرحمة عن الابتسامة بأنَّها صدقة، ولا أظن أنَّ تلك الصدقة أرادها الله لنا اعتباطًا، أو لمجرد حصد المزيد من الحسنات الأخروية، بل إنَّ ثمارها تبدأ من الدنيا، ولاتنتهي إلَّا في الجنة حيث الخلود، وهي بوابة تستخدمها كلُّ شعوب الكرة الأرضية، حتى تلك الشعوب التي ربَّما، لم تسمع بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله).
 
رغم ذلك قد يُقبل امرؤٌ على الآخرين بوجه مكفهّر، ليستغرب بعد حين من اعتقادٍ رسمه الآخرون عنه، كإنسان متجهّم يملأه الغرور، ورغم خطأ التسرع في الحكم عليه، إلا إنَّه ساهم بدرجة كبيرة في ترك ذلك الانطباع، وسيكون عليه بذل مجهود أكبر من المعتاد، ليُغيّره حين يقرر المضي في تكوين علاقات مع شخصيات من محيطه.
 
نوع آخر من البشر، يجيد لقاء الآخرين بسيمفونية الشكوى، فما إن يتعرف أحدهم على الآخرين، حتى يملأ آذانهم وقلوبهم من البلايا، التي أجراها الدهر عليه، فهو المحسود دائمًا، وهو من يتربص به الآخرون الدوائر دائمًا، وهو من يُردُّ على إحسانه بالسيئات دائمًا، وهو المغلوب على أمره، وهو الصابر على البلاء، ولن يتوقف سيل الشكاوى، حتى يمنّ الله على مستمعه بالهرب من بين يديه، ثم حين يلتقي آخرين سيحدِّثهم أيضًا بأنَّه الطيب الذي يتحاشاه الناس دائمًا!
 
قد تكون تلك الصورة التي يسعى أحدهم لرسمها عن نفسه في الأذهان، ناتجة عن تصور خاطئ، إذ يعتقد أنَّ الإنسان لا بدَّ أن يجر تعاطف الآخرين حتى يكسبهم، ناسيًا إنَّ كُلَّ امرئٍ يحمل بصدره همًّا ينتظر أن يفرجه الله، أو حلمًا ينتظر أن يحقِّقَه الباري، أو سحابة قلق لا زال ينتظر أن تنقشع من قلبه.
 
تفاجأتُ حين التقيت بفتاة صغيرة السن، جميلة المحيا، والتي ما إن ابتسمتُ بوجهها حتى أمطرتني بابتلاءاتها، (يختي لا تحسبين ابتسم مرتاحة.. إلا أسلي روحي!)..
صِدقًا أشفقتُ كثيرًا عليها، وأُشفق على كثيرين يُبطِلون صدقاتهم (ابتساماتهم) بالمنِّ والأذى.. ليست الابتسامة مؤشر سعادة.. إنَّها مؤشر رضا!
 
أعرف إنَّ بعض البشر ممتحنون، وإنَّهم يحتاجون (للفضفضة)..
فلننتخب الله لشكوانا ثُمَّ لننتخب صديقًا أمينًا نبثُّ له خلجات وجعنا..
ذلك إنَّ الشكوى لغير الله مذلة.
 
 
نشر في
20 ديسمبر 2014
 

مقال سابق: القيمة الذاتية للعلم .. الوردي مثالًا

أُتابع مؤخرًا وعبر برنامج اليوتيوب مسلسل يروي قصة حياة عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي (1913 – 1995م).
 
أتصور أن كثيرين قرأوا لهذا الرجل أو سمعوا عنه، اتفقوا مع آرائه أحيانًا، واختلفوا معه أحيانًا أخرى، حتى وصمه البعض، نتيجة ما يحمل من أفكار جريئة ناقدة لمجتمعه العراقي خاصة، ولعموم المجتمع العربي والإسلامي.. ورغم اختلاف الكثيرين معه في بعض الجزئيات والتحليلات والتوصيفات إلا أنه يُعدُّ ناقدًا ذي عقلية منصفة إلى حد كبير.
 
شهد الدكتور علي الوردي مختلف الأحداث التي مرت على العراق، كوقوعها تحت السيطرة العثمانية ثم احتلالها تحت عنوان الانتداب الإنجليزي.. وكان يعيش مرحلة زمنية لا تعطي العلم والكتاب أي اعتبار، حيث كان الأهالي يكتفون بإرسال أبنائهم للكتَّاب حتى يتعلموا قراءة القرآن.. وأظن أن ذلك لم يكن مقتصرًا على المجتمع العراقي، فمجتمعنا كان كذلك أيضًا، مكتفيا بتعلم قراءة القرآن وهو ربما ما كانت تقتضيه الحياة البسيطة آنذاك.. وكان الاهتمام الأكبر يعطى لأن يتعلم الشاب حرفة يرثها من آبائه، وأن تتعلم الشابة ترتيب البيت وطهي الطعام لتكون مهيئة للزواج والإنجاب.
 
إن أكثر ما شدّني في الحلقات الأولى من هذا المسلسل هو الصراع الذي عاشه الوردي منذ أن كان طفلًا من أجل أن يحظى بفرصة الدخول للمدرسة، فمنذ نعومة أظفاره تولع بالكتاب والقراءة وكان حلمه يتمثل بأن يلتحق بالتعليم النظامي ليقرأ ويدرس ويتعلم، إلا أن طموحه ذلك اصطدم مع مجموعة من العادات والموروثات فتعثر مرات ومرات.. واستمر لسنوات ممنوعًا من رغبته في الالتحاق بالمدرسة، حتى تمكن أخيرًا من أن يوفق بين التعلم ورضا والدته!
 
ما دعاني للكتابة هو إدراك الوردي لأهمية التعليم في مجتمع جاهل، حينها لم يكن المتعلم موعودًا بالوظائف المرموقة، ولا يعدّه المجتمع إلا (بطرانًا) ترك فرص اكتساب مهنة الأجداد التي ستعينه على الحياة ليلتحق بـ (المكتب) كما كانوا يسمونه، إلا أن شعور الوردي بأهمية أن يكون متعلمًا وذا فكر جعلته يقبل على ذلك الصراع ليصرعه ويحقق إرادته بتوفيق من الله.. وبمقارنة بسيطة لما يجري اليوم على عملية التعليم وقيمة التعلم عند الناس في مجتمعنا فأقول إن ذلك الدافع الذي امتلكه الوردي غالبًا لا يمتلكه أكثر الطلاب تفوقًا في يومنا!
 
فقد اقترن العلم بالشهادة، وتزاوج التعلم بالطموح العملي.. فوقع لقب (طبيب) قد يدفع بأحدهم لتحمل عبء الدراسة، وطموح إنسان ليدخل سلك تدريس الآخرين أيضًا قد يدفعه لإنهاء بكالوريوس بتخصص ما، لكن مَن منا لا زال يدرك بقرارة نفسه القيمة الذاتية للعلم، بعيدًا عن كل الثمار العملية التي نسعى لها حين نتحمل أعباء الدراسة؟!
 
اليوم فإني كثيرًا ما سمعت عبارة موجعة يطلقها البعض بين فينة وأخرى (مدام آخرتها ما بشغلونا.. ندرس لوي؟!) في أكبر عملية تراجع في فهم قيمة العلم الذاتية، إذ صار العلم مجرد (سلّم) للوصول لراتب شهري (يسوا) ومتى ما أزيحت تلك الرتبة المهنية وتقلصت القيمة المادية لتلك المهنة فبالتأكيد ستتقلص مساحة الاهتمام بإحراز العلم وتحمل أعباء التعلم، وبذلك يفتقد مجتمعنا لمتعلمين من الطراز التغييري، متعلمين يدركون أهمية أن يمتلكوا المعرفة من أجل قيادة المجتمع كل المجتمع نحو الكمال الذي يريده له الله. اليوم قد نحفظ ونحن على مقاعد الدراسة آيات قرآنية توضح أهمية اكتساب العلم، وقد نحفظ أحاديث عن النبي محمد وأهل بيتهم عليهم السلام تحث على اكتساب العلم، بل قد نحفظ أبياتًا من الشعر تبجل اكتساب العلم، لكن الأمر لا يعدو أكثر من كونه حفظًا لدرس مقرر سنمتحن فيه لنحرز درجة نجاحه!
 
نعيش تراجعًا إنسانيًا قد لا يكون الأول، فالصراع بين مكونات المجتمع ولد مع قتل قابيل لأخيه هابيل.. وفي سبيل إحراز التقدم بدلًا من الصراع والتشرذم، وفي سبيل التحول من قناصي فرص لصانعي فرص، وفي سبيل التحرر من الموروثات البالية والخاطئة، ومن أجل فهم حقيقي للعقيدة والحياة فنحن نحتاج لأن ندرك القيمة الذاتية للعلم، ونؤمن بعلم يفوق العلم الوظيفي الجامد إلى علم إنساني عام وشامل يكون فيه العلم وسيلة وغاية..
 
لقد تمكن الوردي من تقديم أطروحات ومقالات وأبحاث خاصة بمجتمعه، حتى اتهمه القوميون العرب بالقطرية حين قدم بحثًا حول شخصية الفرد العراقي، وأتصور أن ذلك إنما نتج عن شعور بالمسؤولية تجاه مجتمعه.
 
إن عملية النقد الموضوعية والعلمية تعد أساسًا مهمًا من أسس التغيير التي نحتاجها في مجتمعاتنا اليوم، على أن تكون نابعة من علم اكتسبه الإنسان فوظفه في حالة شعور متقدم بالمسؤولية الدينية والأخلاقية والاجتماعية عند ذلك الناقد.
 
ختامًا أنقل لكم هذه الرواية: ((قال أبو جعفر عليه السلام: يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان، إني نظرت في كتاب لعلي عليه السلام، فوجدتُ في الكتاب: إن قيمة كل امرئ وقدره معرفته))
معاني الأخبار:  1، ح2
 
 
نشر في
13 ديسمبر 2014
 

مقال سابق: خط الرجعة

كثيرة هي المواقف والقرارات، التي نتمنى أن يعود بها الزمن للوراء لنتوقف عن أخذها، او لنأخذها بصورة أخرى مختلفة عما قمنا بها.. كثيرة هي الكلمات التي تلفظنا بها وتمنينا لو يعود بنا الزمان، لنعدَّ حروفها، ونستبعد بعضها.. كثيرة هي الأمور التي أهملناها وتركناها وتمنينا لو عاد الزمان لنتشبث بها.. كثيرة هي الأمور التي تشبثنا بها وحاربنا الدنيا من أجلها، وتمنينا لو يعود بنا الزمان لنطرحها بعيدًا عنا، ونمضي حياتنا دونها.
 
في مراحل عمر الإنسان المختلفة، وبحكم اختلاف تجربته الإنسانية، وبحسب ملامح شخصيته ودرجة نضجه في كل مرحلة، تختلف آلية اتخاذه للقرارات، كما تختلف أولوياته واهتماماته وربما طريقة تفعيل قراراته، كما يرتفع منسوب نضجه العقلي والزمني بما يترك أثره بشكل واضح على طريقة تفكيره، وكذلك على أولوياته في اتخاذ القرارات او مراجعتها.
 
كثيرون يتمنون لو عاد زمانهم للمرحلة الابتدائية، ليتمسكوا بكرسي الدراسة، وليعيشوا مراهقتهم داخل إطار المدرسة لا العمل الذي استعجلوه.. كثيرون يتمنون لو عاد زمانهم ليواصلوا حياتهم في منطقة مسقط رأسهم، ليحموا أنفسهم أصدقاء سوء عرفوهم.. كثيرون يتمنون لو يعود الزمن للوراء ليبتعدوا عن ممارسة خطأ ترك ثقله على سمعة عائلتهم وأبنائهم وذويهم.. كثيرون يتمنون أن تعود شخوص للحياة ليحسنوا إليهم ويبروهم. لكنهم يبقون مرابطين عند محمل الأمنيات، يصفقون كفًا بكف على ما فاتهم، ثم يواصلون ممارسة حياتهم بأخطائها لاعتقادهم ان خط الرجعة خط وهمي لا يمكن لأحد أن يسير عليه، إلا أن هذا الخط موجود لا يختفي، لكنه يحتاج لبصرٍ حديدٍ حتى يتمكن صاحبه من تمييزه واكتشافه والسير عليه. فمن أهمل تعليمه في مراحل عمره الفتية يمكنه أن يسير على خط رجعة تعيده لمقاعد الدراسة كبيرًا.. أتذكر أن النضال في لجان العاطلين قد جمعني بأحد أبناء وطني المثابرين الذي ما توقفت عن ذكره يومًا نتيجة إعجابي الشديد بإرادته وعزمه.. فهذا الشاب الثلاثيني كان ضحية أحداث التسعينات، إذ اعتقل وهو في سن صغيرة جدًا ليبقَ خلف القضبان خمسة سنوات عجاف خسر فيها فرصة تواجده مع أقرانه على مقاعد الدراسة، لتنتهي فترة حكمه بعد الانفراجة في بداية هذه الألفية. وهو شاب قد شارف أقرانه على التخرج من المرحلة الثانوية، لكنه بعزمه وإرادته عاد لمدرسته الإعدادية القديمة، والتحق بصفوفها مع من كان يراهم صغارًا، ليكمل المرحلة الإعدادية كبيرًا وسط الصغار، وليلتحق بالمرحلة الثانوية شابًا وسط مراهقين، ثم ليتم دراسته الجامعية بجدارة رغم أن شهادته لم تشفع له، ليكون موظفًا ضمن وظيفة تناسب مؤهله، إلا أن هذا الشاب يعيش حالة من الرضا بإنجازه الذي وفقه إليه الله، وتحقق بفضل الله لكن عبر قرار اتخذه وصعوبات تحملها ومشاق استهان بها.
 
إن الانسان هو عنصر التغيير وهو أداته، وهو من أكثر العوامل تغيرًا في الحياة، فلا يوجد إنسان ثابت الصفات والإنجازات والرؤى، مهما اعتقدنا او اعتقد هو نفسه بأنه ثابت لم ولن يتغير عبر مراحل عمره المختلفة.. لذلك نجد أن كثير من معارفنا قد تغيرت صورتهم، فنحكم عليهم اليوم من منطلق الأمس، نعيب عليهم ربما ما آلت إليه ظواهرهم، دون أن نأخذ في الحسبان جوهرهم وأسباب تغيرهم، وتبدل أولوياتهم، دون أن نعي خطوط رجعتهم وأسبابها ومشقة السير عليها، فلربما اكتشف أحدهم انه كان متمسكًا بمبدأ خاطئ فغير أسلوب تمسكه، أو صحح مبادئه، أو على أقل تقدير هذبها وأعاد ترتيب أهميتها في حياته، كما فعلتَ أنت وكما أفعل أنا وكما يفعل الإنسان الطبيعي الذي يسير في حياته ببطئ غير محسوس، ويعيش تجربة تراكمية لا يمكن أن يصل لنتيجتها دون أن يمر بمقدماتها.
 
كثيرون يعيبون على الآخرين، تبدل أولوياتهم، أو تغير أسلوب حياتهم.. إنهم ببساطة أدركوا خطأً فصححوه، أو تعبت أيديهم من التشبث بما لم ينفعهم فتركوه.. كثيرون يمتنعون عن تصديق تغير إنسان للافضل نتيجة صورة رسموها عنه باكرًا، فمن كان بعيدًا عن جدران المسجد، يُنظر لتواجده داخل إطارها نظرة ريب وتوجس (وش جابه ده المسجد!) وكأن التوبة حكرًا عليهم، وكأن الرغبة في الله ما خلقت إلا بقلوبهم.. كثيرون يشككون بتبدل لهجة آخرين عرفوا بشدتهم فرُفِض لينهم، وأُعيدوا بجريمة الرفض تلك لقسوتهم وصورتهم الفظة الأولى! وكأن رافضيهم ما أساءوا لحبيب يومًا!
 
إن التغيير سنة كونية تبدأ في داخلك، ولا تنتهي في الكون من حولك. نحن جميعًا كما أنت قادرون على التغيير وهي لعمري نعمة إلهية اختص بها الله الإنسان دون سائر المخلوقات، لذلك فمجتمعاتنا تتبدل وتتغير أحيانًا للأفضل حين يُغير أبناءها أنفسهم للأفضل.. وأحيانًا تتبدل للأسوأ حين يتخلى أبناءها عن التغير للأفضل، ويستسلموا لحياة خالية من تبديل المواقف، وتصحيح الأخطاء، لحياة تسير باتجاه واحد لا خط رجعة فيه.
 
 
نشر في
5 ديسمبر 2014
 

مقال سابق: لقاء على هامش الحج

لم يكن زحام الحج يترك لنا الفرص متاحة للتوجه للحرم المكي كلما رغبنا بذلك.. وكلما مضت الأيام زاد زحام الحجاج وتقلصت معه فرص التواجد بالحرم، فرحلة الذهاب التي يجب أن لا تستغرق أكثر من نصف ساعه للذهاب وأخرى للإياب كانت تحتاج منا للكثير من الجهد والكثير من ساعات الانتظار مع تحمل مشقة التنقل.
 
كانت الناس تتقاطر على أرض مكة من كل حدب وصوب.. جماعات من أفريقيا وشرق آسيا، جماعات من كندا وتركيا، وطبعًا من كل البلاد العربية.. مزيج هائل من الثقافات والحضارات يجمعها الله لتوحيده هناك حيث كعبته المشرفة، معجزة يكررها الله كل عام.
كنت أتمنى لو سمحت لنا الفرص لتبادل أطراف الحديث مع كل حضارة تمر علينا هناك، إلى أن شاء الله أن ألتقي بثلاث شقيقات يمنيات، تعمل إحداهن كممرضة بينما الاثنتان الأخريتان معلمتان.. تجاذبنا أطراف الحديث حول بلدنا البحرين وبلدهم اليمن وكان المدخل لنقاشنا (اللكنة العربية)، ففي حين اعتقدت الأخوات أني وزميلتي في الرحلة أردنيات، كنا نعتقد أنهن سعوديات.. تحدثنا معهن حول طبيعة بلدنا الزراعي البحري والذي لم يعد موجودًا بفعل الطمع الرسمي وعدم الاكتراث لطبيعة الشعب الساحلية، وحدثونا عن اليمن ذات الطبيعة الخلابة التي لا زالت تحوي مناطق فائقة الجمال (جنة من جنان الله على الأرض).
 
تحدثنا عن طبيعة شعب البحرين الأعزل وكيف تستحوذ السلطة على عملية التسليح وتوظف مرتزقة في سلك العسكر بمن فيهم اليمنيين لأهداف واضحة بينما أخبرتنا الأخوات أن شعب اليمن شعب مسلح بامتياز فمنازلهم تحوي صواريخ سكود أحيانا! بينما مناطقهم الجبلية ملئى بالقنابل. وتفاجأنا حين أخبرتنا اليمنيات بمعرفتهن عن تجنيس العرب بما فيهم اليمنيين وأنهن يدركن أسبابه تمامًا ويرفضونها، حتى أنهن ذكرن كيف رفض الجيش اليمني قتل الشعب ذلك أنه منهم.
 
جميل كان حديثهن المفعم بالأمل حول بلدهن بعد الثورة وأملهن في أنه يسير بخطى صعبة نحو الكمال، وكان لهن شاهد إذ كانت العوائل المتنفذة تقتل المختلفين معها دون قصاص، ذلك أن الحكومة ستقف معهم بالمرصاد دون أن تنتصر للفقير الذي قتل بينما صارت تخشى من تفشي شعار (ارحل) فبدأت بمحاسبة المتنفذين وانتصرت في كثير من الأحيان لأصحاب الحق.
موضوع البطالة أخذ حقه من النقاش إذ تشابهت ظروف الخريجين العاطلين مع اختلاف أسباب عدم التوظف. أما الغريب في حديثنا فكان حول القات اليمني، إذ نفت الأخوات أن يكون للقات اليمني أي أثر مسكر أو مخدر وقلن إن أحد أنواع القات يشبه الحشيش وهو النوع الممنوع تمامًا في بلدهن. أما القات المتداول فيقوم الشاب اليمني بتخزينه في فمه ليمضغه كالعلكة طمعًا في قدرته المنشطة، إذ أنه يعطيهم -بحسب كلامها- طاقة كبيرة ذهنيًا وجسديًا. سألناهن إن كن قد جربن تخزين القات فنفين، ذلك إذ قليل ما تستخدمه النساء. قد يكون هذا الموضوع من أغرب المواضيع التي لم أتوقع ان أتلاقها بصدر رحب وعقل منفتح، ورغم أني أدرك في قرارة نفسي أن للقات مساوئه التي يجب أن تبعد الإنسان عنه إلا أني وجدت الاحترام لنظرتهن أمرًا ماثلًا أمامي. ختام حديثنا كان حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.. أخبرناهن أن روايات أهل البيت (ع) أخبرتنا أن كثيرًا من أنصار المهدي من أرض اليمن فسألنا الله أن يكن ونكون منهم.
 
قد يكون مجرد لقاء، وقد يكون الحديث الذي تبادلناه مجرد حديث بسيط، لكنه فتح الآفاق كثيرًا عندي. لماذا لا يكون موسم الحج موسم تلاقح الأدمغة وانفتاح القلوب؟ ولماذا يقتصر على أداء المناسك؟ فرغم جمالها وجمال الانشغال بها إلا أن هناك متسع قبل بدء أعمال الحج وبعد الانتهاء منها، لافتتاح بوابة كبيرة جدًا لتتعرف الشعوب على بعضها، ولتتفتح الأذهان حول الآخرين بشكل ودي وصحيح قد يبعد شبح التعصب والحقد الأعمى عن قلوب من اجتمعوا إرضاءً لله، ذلك أن مناسبة اللقاء ستلقي بظلالها على أجواء التعارف، فيكون منطلقه توحيد الله والإقرار بالعبودية له، مترفعين عن كل الفوارق الطبقية والمذهبية والجغرافية والمادية، عائدين لأراضيهم وبيئاتهم محملين بالحب والمعرفة بالشعوب الأخرى.
 
بكل أمانه ترك حديثي مع الشقيقات اليمنيات لفتتة طيبة بعمق نفسي ذلك أني ربما تحاشيت أهل تلك الحضارة على أرضي رفضًا لوجودهم واشمئزازًا من موقفهم، لكن هناك تفتحت لنا آفاق من المحبة والتسامح لن تتفتح مثلها إلا على تلك الأرض التي حباها الله كثيرًا من الامتيازات.
يقول رب العزة (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) وقطعًا ما جعل الله ذلك التعارف.. عبثًا.
نشر في
22 نوفمبر 2014

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...