ابحث في مدونتي

الأربعاء، 25 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (36)




رن جرس المنزل، ففتحته احدى بنات الحاج علي، كان أبو فهد واقف أمامها مباشرة:

- أبلغي والدك أن أبا فهد يريده عند الباب

- بابا ليس في المنزل

- هل يمكنك اذا استدعاء أم فهد؟

- عمتي؟


هز رأسه بالايجاب، منذ مدة طويلة لم يسمع وصف زوجته بالعمة "يبدو أنها اشتاقت لتكون بين أسرتها .. هذا كل ما في الأمر اذا!" دقائق وأقبل الحاج علي من الخارج، ترافقه شريفة. رحب بأبي فهد بينما اكتفت شريفة بالسلام على أبيها برسمية، مختصرة على نفسها أي كلمة أو تصرف جارح قد يصدر منه:

- أهلا أبي .. آمل أنك جئت طلبا للخير

- أريد أن ترافقني زوجتي لبيتها ...


تقدم الحاج علي أبا فهد ليُدخله مكتبه، تتقدم معه شريفة. نظر اليها والدها مليا، أمسكها من كتفها، وأدارها اليه لتلتقي عيناه بعيناها:

- البيت لا زال بيتك .. عودي معنا

- وفهد؟

- أنا قادر على حمايتك منه


نظر الحاج علي لعيني أبي فهد، كان يريد ان يقرأ نواياه "أيعقل أنه صادق فيما يقول؟" بمجرد أن جلسا، توجهت شريفة لاستدعاء أمها.

دخلت أم فهد المكتب مسلمة على الجميع، جلست ذات الجلسة الواثقة التي صارت تستقبل بها أبا فهد مؤخرا:

- أهلا أبا فهد .. أخبرتني شريفة أنك طلبتني

- جئت أعيدك لبيتك معززة مكرمة

- وهذا؟

كانت تشير لشقيقها، فنظر اليه أبا فهد وسألها مازحا:

- علي؟ ما به؟ تريدين أن نأخذه معنا؟؟

- بل أريدك أن تحضرني اليه .. متى أردت

- لك ذلك ... وشريفة أيضا ستعود معك

- لا ... شريفة استقرت بمنزل زوجها .. لكنها ستزور أهلها .. لن تنقطع عنهم أبدا

- انها دارنا جميعا ..


على مدى سنوات، كان الحاج علي وكلما اقتحمت أخته ذاكرته يردد "انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، فسبحانه مغير الأحوال، قد يسكننا اليأس من ان يبدل الله انسانا، الا أنه دائما عند وعده "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"!

تبسم الحاج علي، ووجّه حديثه نحو أبي فهد:

- آمل أن تجدك ابنتك عونا .. مخطئ يا أبا فهد ان ظننت أننا مسؤولون عن أولادنا فقط ماداموا يطيعونا .. نحن مسؤولون عنهم بل عن كل المجتمع والانسانية .. أحسِن لهما أحسن الله اليك .. أعنهما على الخير .. وأبعدهما عن الشر

- ان كنت تقصد فهد يا علي .. فلا طاقة بي على تغييره .. كلما أستطيعه ربما هو دفع أذاه عن شقيقته .. آمل ذلك حقا


ركضت شريفة عند بنات خالها، لم تكن مصدقة أن شفاه والدها نطقت هذه الجملة "أنا قادر على حمايتك منه"!! منذ أيام كانت تسأل الله أن يحميها من والدها وشقيقها، فسخر لها أمها، تلك الانسانة الضعيفة مسلوبة الارادة، ليتحول والدها من متسبب بالأذى لمانع عنه! ارتمت باكية في حضن زوجة خالها، فلم يعد حضن صديقتها زهراء متوفرا:

- أكاد لا أصدق يا خالة .. أيعقل أن تتغير الدنيا مئة وثمانون درجة فجأة!!

- من قال أنها تغيرت فجأة يا شريفة؟

- والدي ... لم تسمعي ما قاله

- لكل مجتهد نصيب.. لقد قالها الله صريحة مرارا وبمختلف الصور .. أنه يعين من عمل، ودعا، ووثق فيه .. فتحملت كثيرا .. ودعيت الله كثيرا .. وعملت كثيرا .. ولم تستسلمي أبدا .. وكنت واثقة أن الله سيكون في عونك .. فكان الله في عونك يا ابنتي.




عادت أم فهد من مكتب شقيقها، والفرحة تكسو قلبها، وتقفز بين نظرات عيونها، وكأنها عروس للتو جاءها من أرادته خاطبا، هذه المرة لم تقف هذه السيدة بوجه أهلها لتكون مع من اختارته زوجا، بل وقفت بوجه زوجها لتكون مع من اختارهم الله لها أهلا!


حملت حقيبتها، وقبلت ابنتها، شكرت عائلة أخيها لحسن استقبالهم، ووعدتهم أنها لن تبارح هذا البيت أبدا، ووعدوها أنه سيكون مفتوح لها ما بقي الدهر :

- عزيزتي شريفة .. أنا مطمئنة عليك وأنت في عهدة عمتك أم فضل .. دعيني أطمئن أيضا من وضع البيت .. ثم سأدعوك لزيارتنا

- لست مستعجلة ماما .. الأهم عندي أن تزوريني

- باذن الله ...


عادت أم فهد، سيدة لمنزلها، وكان في استقبالها – بالصدفة – ابنها فهد، نظر اليها مستغربا، ثم أشاح بوجهه عنها، يريد الباب ليخرج، فاستوقفته:

- فهد ...

استدار لوالدته صامتا:

- هذا البيت .. هو بيتي أنا ووالدك .. ونحن سعيدين أننا قادرين على استقبالك فيه دائما .. ما دمت حريصا عليه وعلينا ... شريفة في منزل زوجها .. وستكون في زيارتنا كل يوم ... أنتظر منك أن تحترم البيت وأهله وزواره

توجه فهد ناحية أبيه:

- أهذا ما توصلتم اليه في منزل خالي؟ ببساطة يا أبي؟ ستقبل املاءات شريفة .. ستمرر خطط والدتي وشقيقها؟؟ ستقبل الانقلاب علينا؟؟


يبدو أن الشاب فهد، قد تشرب بأبجديات أسياده، فكل ما يجري خلافا لارادته انقلاب! وصيغة التوافق لحل مشكلة ما، ما هي الا خطط ومؤامرات، والقبول بالحق يلحقه عار الاتهام بالرضوخ لاملاءات!! هز أبا فهد رأسه، لم يجادل ابنه، ولم يحاول مناقشته، لا يملك ذرة أمل واحدة بأنه قد يحاول الفهم، او حتى بأن قد يتجاوز الأمر من أجل رأب صدع لا يمكن لوالده تحمله:

- لا نريد منك شئ .. فقط اترك اختك وشأنها!




حطت الطائرة أخيرا، لقد أُنهكت زهراء وهي تنتظر انتهاء رحلتها الطويلة، أنهت اجراءات الدخول للبلد، وخرجت من بوابة القادمين تدفع عربة حقائبها أمامها، وتحمل صغيرها على ذراعها، بينما تبحث بعينين مشتاقتين عن زوجها، تتلفت يمينا وشمالا، ترفع جسدها على أطراف أصابعها علها تجد حسن بانتظارها، فجأة صارت تسمع صوتا مألوفا من بعيد:

- زهراء .. زهراء ...

انتبهت لمصدر الصوت، حسن الزوج الذي لطالما أبعد عنها قسرا، ها هو يركض مشتاقا باتجاهها، وصل أمامها مباشرة، صارت تسمع أصوات أنفاسه وقد أنهكه الركض اليها، عيناه تمتلآن شوقا، ويداه ترتجفان من البرد، تجمدت الدنيا لحظات حين تلاقت عينا الزوجين المشتاقين، تسمرا أمام بعضهما وكأنهما يعيدان طباعة صورتيهما في عين بعضهما!

صرخة من منتظر، الذي لسعه برد هذه البلاد الغريبة، أيقظ والداه من لحظة كانا يظنان أنها بعيدة جدا، تهاوت جدران غربة حسن بمجرد أن نظر لأسرته الصغيرة، التقط ابنه من ذراع زوجته، لفه بوشاح كان قد أحضره احتياطا لهذه اللحظة، ووضع على زوجته وشاحا آخر:

- لقد كبر منتظر كثيرا .. صار يشبهك يا أم منتظر

لم تكن زهراء قادرة على الكلام، ظن حسن أن السبب شعورها بالبرد، فاقترح عليها أن تأخذ سترته، لكنها لا تشعر بالبرد! لقد داهمها الدفء فجأة! دخلت شقة زوجها الصغيرة، غرفة وصالة في مؤخرتها مطبخ على الطريقة الغربية، أغلقت الباب وما ظنت أن سيكون لها مع زوجها باب يغلق!

- صرت تنام وجهازك مفتوح؟ وتخرج دون أن تتخفى يا حسن؟

- الحمدلله يا زهراء .. عدت لأكون انسانا .. لكن ثمن انسانيتي باهظ .. لقد قدمت وطني ثمنا!

- لا تحزن يا حسن .. سنتمسك بحلم العودة وليس أي عودة .. عودتنا ونحن متشبثون بانسانيتنا .. لن نسمح لهم بسلبها منها .. انسانية متشبعة بالكرامة

- دعينا نتصل للأهل .. لا بد أنهم قلقون عليك وينتظرون أن تطمأنيهم


رن هاتف الحاج علي، بينما كانت كل الاسرة متحلقة حول شريفة، ففضل معها على الهاتف. ابتعد الحاج علي عن بقية الأسرة ليرد على المكالمة:

- بابا ... أنا وحسن نريد محادثتكم بالصوت والصورة .. افتح الكاميرا


بسرعة ركض الحاج علي نحو شريفة، طلب منها أن تفتح المكالمة للجميع، ثم طلب منهم أن يصمتوا تماما، فتح كاميرة هاتفه وجاءته صورة وصوت حسن:

- عمي علي .... كيف حالك؟

- أنا بخير يا حسن .. أريدك أن تنصت يا حسن .. أنصت

- حسن ..... حسن ..... اشتقت اليك كثيرا


قد يلتزم حسن رباطة الجأش وهو يلتقي زوجته، بل حتى وهو يعود لأرض الوطن، الا أن لفضل بعمق هذا الشاب مكانة خاصة جدا، انه الانسان الذي قضى عمره وهو بجانبه، لطالما رعاه وحماه وأسعد قلبه، لطالما أبعده عن رفقة سوء، لطالما دفع عنه نتائج حماقة ارتكبها، لم يتمالك حسن نفسه وهو يسمع صوت فضل عبر الأثير، بصوت مبحوح أجابه:

- يا رجل ... لو جئت معي!! اشتاقك كثيرا يا فضل ..

ضحك فضل من كل قلبه، وكأنهما للتو دخلا الجنة معا! من يصدق أن فضل بصوته السعيد يتحدث من زنزانة مظلمة تملأها العفونة والرطوبة، ويقف عند بابها سجان غليظ؟! من يصدق أن صوت حسن المشتاق، بلهجته الأصيلة يأتي من بلاد تبعد عنهم بمقدار قارة على الاقل؟!! من يصدق أن هذه العائلة المترابطة، قد قطعت أوصالها اربا، بين سجين ومطارد ومهجر!!

ماذا أراد المتجبر بهم؟؟ أراد اسكاتهم؟ قتل ارادتهم؟ كسر روحهم؟؟ اذا ضحكات من هذه؟ أصوات من هذه؟؟ أنفاس من هذه؟!! واهم حقا من ظن انه قادر على وأد الحياة من أسرة واحدة ... فكيف بمن عمل وخطط ليأد شعبا بأكمله؟؟؟!


بسرعة انتهت مكالمة فضل، أنهاها سجان غليظ، غير مكترث بحجم الشوق في ارواحهم، أغلق فضل الهاتف لتكتمل سكينة روحه بسماعه لصوت حسن، لقد علم أن زهراء لحقت بزوجها، وصار يحلم باليوم الذي يلم الله فيه شمله بزوجته، عادت به الذكريات لأيام المطاردة فالتعذيب، تساءل بعمق قلبه "ترى هل ستنتهي أيام السجن كما انتهت أيام المطاردة وكما انتهت أيام العذاب؟" وجد الاجابة ماثلة بعمق ايمانه "نعم ستنتهي حتما بعون الله .. لن يطول بقاؤها ان شاء الله".


بدأت عائلة الحاج علي بالاستقرار، ورغم كمّ الوجع الذي يحيط بهم من كل جانب، الا أنهم يجيدون رسم البسمة على شفاه بعضهم، داخل وخارج البلاد، أحرار أو والقيد يضيق على معاصمهم، كانت تلك الأسرة واحدة من آلاف الأسر التي تنام على ألمها، بينما تتمسك بالأمل، ينامون في ظلام الظلم، ويصحون على ضوء الايمان، الكثير من الاشارات الالهية كانت تمر من أمامهم، يرون أنها علامات الانفراجة، فيمنون النفس بالصبر حتى يحين ذلك الفرج. لم تنقطع شريفة عن زوجها أو أمها منذ ذلك اليوم، ولا زالت زهراء تعيش بمحيط أسرتها رغم بعد المسافة، ولا زال فضل حاضرا بينهم رغم القضبان الحديدية، لا يمكن لأحد أن ينتزع الرضا من نفس أحد، هؤلاء قوم رضوا بما قدره الله عليهم، وعلموا أن نضالهم مسؤولية يتوارثونها جيلا بعد جيل، انهم يحلمون أن يكونوا هم الجيل الذي ورث النضال من أجداده، فأورث النصر لأبنائه، لذلك فنضالهم مستمر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ..



اليوم هو موعد زيارة فضل المعتاد، جاءته شريفة برفقة والدتها، كان سعيدا جدا بحضور عمته، وكأن نصرا ما قد تحقق له ولزوجته ولوالدتها حين انتصرت ارادتهم بالحق! اليوم لم تكن شريفة هي المتحدثة بل كان فضل، صار يتكلم عن السجن وكأنه مملكة خاصة به، يعلم بعض الصغار تجويد القرآن الذي تعلمه من حسن، ويقف في صفوف المصلين بامامة أحد رجال الدين المعتقلين، ويساهم في احياء الأذكار والليالي والمناسبات، لقد قرر فضل أن يمتنع عن الذهاب بقاعة المحكمة بعد أن صار اسمه يزج بكل قضية، كان يعرف أن عدد السنوات ليس الا رقما مخيفا يريدون عبره ارسال عدة رسائل، أولها أنهم يملكون زمام الأمور التي لا يملك زمامها الا الله، انتهت الزيارة ووقف فضل ليودع زوجته وعمته ووالديه، اقتربت شريفة من ثقوب الحاجز الزجاجي بينهما، وصارت تهمس اليه:

- يقول حسن .. انه قادر على تأمين الطريق اليك .. فما أنت قائل؟

ضحك فضل مندهشا من حجم ارادة والحاح ابن خالته:

- لا زالت هذه الفكرة في عقله اذا؟

- وصارت في عقلي أيضا ... فكر يا فضل أرجوك فكر ...

تبسم لزوجته، وغمز لها بعينه:

- أعدك أنك ستفرحين قريبا ... لا تشغلي بالك بأي شئ .. فقط كوني بخير

- سأبقى طول الدهر ... بانتظارك ..

شيئا فشيئا غابت أسرته عن عينيه، وجاء سجانه ليمسك كفيه، ويعيده لزنزانته "كم أشفق عليك .. تحمل ذنبي ويملأك الغرور بأنك تسلب حريتي .. وما علمت أن بيننا وقفة طويلة.. غدا تنقلب الدنيا فتكون أنت خلف هذه القضبان ونجرك نحن اليها .. الفرق انك تظلمنا اليوم فنلتمس لك العدل غدا .. نصبر على ظلمك اليوم .. لتضيق ذرعا بعدلنا غدا"!!


سيبقى الأمل يرف على قلوب سكنها الألم، ستظل الارادة الانسانية تحصد المعجزات تلو المعجزات، قد يظن ظالم أن ملكه دائم، فيخيفه صبية صغار حين يهتفون أمامه "أنك ساقط" ليبني الطوامير والسراديب، وينصب المقاصل لقطع الرؤوس المرفوعة فوق السحب رغما عنه، وبلا استئذان منه، لتنمو مكان تلك الرؤوس رؤوس قادرة على النظر لأبعد من تلك التي قطعت، تقتحم بكلماتها قصره لتهز ملكه :

(أظنت حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الأسراء ـ ان بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين)


وكأنهم قطرات ماء هادره، تتساقط منذ مئات السنوات على صخرة صلداء صماء يملأها الغرور، يظن الناظر اليها أنها عصية على الفتك، حتى تتمكن منها تلك القطرات فتحيلها ترابا يذروه الرياح!


"وان غدا لناظره قريب"



تمت في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من فبراير للعام خمسة عشرة وألفين ميلادية .. البحرين ⬇


همسة :

بعض الحكايات .. لا نهاية لها .. تستمر معنا ما بقي الأولون والآخرون ..
تنتقل من جيل الى جيل .. تتربع في صدر التاريخ حتى يتعذر على البشرية أن تحكيها ..
حكايتنا قديمة .. تتجدد مع كل جيل .. يتوارث آلامها الآباء عن الأجداد ..
اما نحن .. جيل التغيير فنحلم ان نورث ابنائنا نصرا .. نحلم أن نكون جيل الثورة الاخير .. نحلم ان نتوقف عن توارث "ثورة" لنتوارث "وطنا" ..

لم تنته الحكاية ... فللتو حكايتنا بدأت ...



الثلاثاء، 24 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (35)



 


 
دقت ساعة الصفر، حملت زهراء قرة عينها على ذراعها، جارَّةً من خلفها حقيبة السفر التي ستكون بجانبها في الطائرة، ملأت سيارة شريفة بالحقائب، الكثير من الأشياء ستكون برفقة زهراء في رحلتها، ملابس لزوجها تعينه على برد الشتاء، في البلاد التي ستقيم معه فيها، وكتب طلب منها أن تحضرها معها من أجل أن يعد نفسه للدراسة، ولأشياء أخرى صار يعتقد أن من واجبه أن يكون ملما بها، كتاريخ بلده والكثير من المفاهيم الإسلامية والعالمية التي اكتشف أنه يجهلها، مفاهيم من قبيل "الوعي" و"الثورة" و"المقاومة" بل حتى "الوطن"!


منذ غادر حسن، وعقله مشغول كثيرا، لقد ظنت زهراء أن سفره وابتعاده عن واقع المطاردة والتخفي سيفرّغه لها أكثر، لكنه سرعان ما انشغل بالاستعداد لمرحلة جديدة، لقد غيرت سنوات المطاردة والسجن والتعذيب خارطة حسن العقلية، فصار يولي الأهمية لأمور ما كان يوليها أي اهتمام في السابق، ولا زال تأثير الحاج علي واضحا عليه. اذ صار يسعى لكتابة مقالات تخصصية على غرار ما يكتبه الحاج علي، مقالات صارت تبهر من يقرأها، وتثير التساؤلات بعقل من يتابعها، مقالات صارت تنشر باسمه الحقيقي، حتى أنه كتب مرة عن واقع الانسان المطارد في بلاده! وقد لاقى ذلك المقال انتشارا واسعا بين أقرانه والمهتمين بالشأن الإنساني والسياسي داخل وخارج بلاده.


ارتفع صوت الموظفة عبر مذياع المطار، لتعلن أن هذا النداء هو النداء الأخير للرحلة التي ستحمل زهراء لزوجها، رف قلبها وطربت اذنها وهي تسمع ذلك النداء، لكن بمجرد أن وقع بصرها على والدها ووالدتها وشقيقاتها وشريفة، الذين جاءوا جميعا لتوديعها، شعرت بانقباضه في قلبها، أنزلت من عينها الدموع. احتضنها والدها بقوة، ورفع كفه عند عينيها ليمسح دموعها هامسا بأذنها:

- اقسمي هذه الضمة لنصفين .. احتفظي بأحدهما وأوصلي لحسن الآخر .. أخبريه أنني أشتاقه اشتياق يعقوب الى يوسف .. وكفي عن البكاء لأن ذلك لا يناسبك

تبسمت زهراء لوالدها، ونظرت اليه مليا، وكأنها تريد أن يستقر في بصرها، ولا يبارح عينيها أبدا:

- لا قدرة لي على فراقك .. أنت سندي في الحياة يا أبتي .. فكيف أعيش بلا سند؟

- سنكون عندك في أوقات .. وستزوريننا في أوقات أخرى .. ثم وبقدرة الله سيأتي يوم تعودان فيه برفقة عائلتكما الكبيرة .. لتستقرا مجددا في وطنكما .. لن يطول الأمر يا عزيزتي.


تحلقت الفتيات حول زهراء ومنتظر، ربما تقبلن كلهن فكرة رحيل زهراء، لكن روحهن تعلقت بهذا الطفل الصغير، لقد أكسب المنزل نورا وبراءة وحبا، فصاروا يصحون على وقع بكائه وينامون وصورة بسمته منطبعة بعقولهن وقلوبهن، ليستيقظوا صباحا وهن يتذكرن حلما جميلا كان منتظر بطله، فيتنافسن للفوز ببسمة منه وقبلة.

من الصعب جدا أن نفترق عن البشر الأكثر نقاءً في الحياة، انهم أحباب الله، زينة الحياة الدنيا، وكم على هذه الأرض من أحباب، أُبعدوا عن أحبابهم قسرا. آباء بعيدون خلف القضبان يشتاقون للثم طفل حديث الولادة، كبر بعيدا عنهم. أطفال محرومون من حنان الأم الذي لا يعوضه حنان، يدفعون ثمن صوت أمهاتهم الهادر، الذي قرر متجبر ما أن يحجبه عن العالم!


والدة زهراء كانت الأكثر توجعا، لم تعتد هذه الأم على فراق أي بنت من بناتها، وحين جاء منتظر لم يكن بالنسبة لها حفيد، بل الابن الذي لطالما تمنت انجابه، فكانوا يعلِّمونه مناداتها ب"أماه" بينما ينادي والدته "ماما" إرضاءً للجدة التي تردد دائما أن "أماه" هي الأصل أما "ماما" فهي لأمهات هذا الجيل اللاتي يصعب عليهن تربية طفل. أمسكت كفه الصغيرة التي كان يلمس بها وجه جدته الذي اعتاده، بينما تنظر لعينيه اللتين لا يبعدهما عنها أبدا، الا حين يقبل عليهم الحاج علي، فبين هذين الرجلين حكاية قصيرة المدة، عميقة الأثر.
ستظل هذه الاسرة تحلم يوما ما، بأن يظلها سقف وطن واحد، ككثير كثير من الأسر على هذه الأرض الطاهرة.


للمرة الأخيرة نظرت زهراء لعائلتها، والدها ووالدتها، شريفة وعمتها، شقيقاتها، أرضها ووطنها، وبينما كانت تمسح الدموع من عينيها، كانت تهمس لطفلها "سنعود يا حبيبي .. سنعود بإذن الله .. من ذا الذي يمكنه أن يمنعنا عن أرضنا؟" استدارت وصارت تمشي للأمام، متجهة لموقع الطائرة التي ستحملها بين جناحيها لتلقيها في وطن آخر، لطالما حلمت بأن تكون معه، لم تنظر زهراء للخلف ولن تنظر، لقد قررت أن تنظر دائما للأمام، ستغادره وتعود له دائما وهي تنظر للأمام.


في موعدها المعتاد، توجهت شريفة لعملها، على أن تستأذن بعد ساعتين فقط، بعذر الانشغال بأمر عائلي هام، توجهت بعد ذلك لصالون النساء القريب من منزلها، في قرية زوجها، وهناك صارت تستعد لموعد هام، وفي الوقت المحدد عادت لمنزل زوجها بينما كان ينتظرها عمها وعمتها وشقيقيَّ فضل:

- مستعدة يا شريفة؟

- نعم عمتي ... مستعدة ومتحمسة وخائفة وسعيدة وكل شيء!

ضحك الجميع لروح شريفة التي صارت تسليهم في البيت كثيرا، وتوجهوا لموعد لطالما حلمت أن تكون شريفة احدى المدعوات عليه.




 
وصلوا مبكرا حيث اصطف الجميع في طابور، عند البوابة الأمامية، سلموا بطاقاتهم الشخصية وذكروا عددهم، ليمروا مع أعداد كبيرة من العائلات التي جاءت لذات الغرض، الذي جاءوا اليه، ليصلوا لباب آخر حيث تم تفتيشهم بشكل شخصي ودقيق، ليحيلوهم على غرفة صغيرة ليُطلب منهم مجددا اخراج بطاقاتهم الشخصية، وليتعرضوا مجددا للتفتيش ثم ليسألوهم مجددا عن السبب الذي دعاهم للحضور!!  أصيبت شريفة بالضجر الشديد بينما تمر بكل تلك المراحل من أجل نصف ساعة سيبقونها بالداخل، لا تسمن ولا تغني من جوع! صارت تتأفف بينما تبتسم لها عمتها:

- صبرا يا شريفة .. فان موعدك الجنة

لتضحك شريفة على تعبير عمتها وتسألها:

- أهكذا روتين كل مرة؟

- نعم يا ابنتي .. وما خفي أعظم .. انظري هناك .. هذا الطفل الرضيع يتعرض لكل ما تعرضنا له .. حتى ملابسه وقماطه يا ابنتي يتم الكشف عليها ..

- أهوس يا عمة؟

- بل تنمر .. يريدون كسر أرواحنا بداخلنا.

بينما تتحدث السيدتان، وصلتا لكابينة كان يطل من نافذتها "فضل"، سكتت شريفة عن عمتها فجأة، بينما العمة كانت تواصل حديثها، لم تعد رجلي شريفة تعيناها على المشي، انه فضل بعد كل تلك المدة "أحلم هذا أم خيال؟!" ودت شريفة لو تطلق لرجليها العنان، لتتقدم الصفوف حتى تصل عند زوجها تماما، لاحظت العمة ذهول شريفة، فنظرت للأمام لتجد فضل هناك خلف نافذته، يترقب منتظرا حضور أحبته، أمسكت أم فضل بيد شريفة، وصارت تستعجل زوجها وأبناءها، تقدموا خطوات حتى وصلوا عند فضل تماما، رفع رأسه مرحبا بوالدته التي فاجأته بسحب شريفة أمامها:

- شريفة!!!!

وقف فضل على رجليه، لم يتوقع أن تحمل الجرأة زوجته حتى بوابة السجن! تبسم وقد امتلأت دنياه فرحا، والتصق بالجدار الزجاجي أمامه، وكأنه يدفعه عنه لعله يفوز بلقاء أحبته :

- هذي فعالك يا أماه ..!


تلاقت عينا الزوجين بعد طول فراق، والابتسامة ترفرف على قلبيهما، مدت شريفة كفها، كانت تريد أن تسلم على زوجها، لكن الزجاج بينهما أبى الا أن يحرمهما هذا الحلم الصغير! وعبر ثقوب صغيرة، صار فضل يزغرد ليزغرد من بعده بقية المعتقلين، عمت الفوضى المكان، واجتاح الفرح تلك الكبائن الضيقة، مخترقا الحواجز الزجاجية التي تمنع الأحبة عن أحبابهم، ما استفز العسكر الذين يراقبون هناك حركات العيون وسكنات الأيدي، يحاولون اقتناص أي محاولة التقاء بين المعتقلين وعوائلهم، يترصدون لأي لحظة فرح قد يتمكن أحدهم من نزعها رغم القيود. لم تكن شريفة تتوقع كل هذا التعقيد لتلتقي زوجها، ورغم أنها سمعت عن وجود حواجز مانعة بين المعتقلين والأهالي، الا انها لم تتوقع أن تكون الصلة بينهم عبر ثقوب!! كاد الحزن يغشى قلب شريفة، الا أن مرح فضل وزملائه وزغاريدهم بل محاولة أحدهم الرقص مازحا، رسمت الكثير من الفرح في قلبها، وبعد أن هدأ صخب فضل، صمت الجميع وصاروا ينصتون لشريفة، كانت تتحدث وتتحدث وتتحدث، أخبرت فضل أنها انتقلت لغرفته، وصارت تنام على سريره، وتستخدم دولابه، وتنظر لنفسها في مرآته، أخبرته كيف أن والدتها كانت سندها، ووالدته صارت درعها في غيبته، طمأنته أنها تعيش أياما جميلة تنتظر الحلم ليصبح واقعا، حين يأذن الله له بالفرج ليعود لبيتهما، ويستأنف حياتهما، ويكون لهما طفل يخبر العالم عن معجزات الإرادة البشرية حين تلتقي بالتوفيق الإلهي. لم تكف الكلمات شريفة في ذلك اليوم، ولم يتسع الوقت لفضل في تلك الزيارة، كان يراقبها وهي تتكلم دون توقف، شريفة الفتاة الهادئة التي كان يستميت لينتزع منها تصريحا، صارت تجيد اطلاق التصريحات، لم تفارق البسمة شفتي شريفة، لذلك كانت عودة فضل لزنزانته هذا اليوم مختلفة جدا، كانت مفعمة بالأمل، متشربة بالسعادة، من قال أن اللقاء لا بد أن يكون كفا بكف؟ أحلى اللقاءات تلك التي تكون .... عينا بعين ... قلبا بقلب .. روحا بروح!

لم يعد أبا فهد قادر على الاستقرار، وصارت نفسه تلح عليه لإعادة زوجته للمنزل، الا أن كبريائه وغروره لا يعيناه على ما أراد، منزله موحش دون شمعتاه أم فهد وشريفة، أما فهد فلطالما كان المنزل بالنسبة اليه مجرد فندق خمس نجوم، ينام فيه ويغير ملابسه وأحيانا يأكل، ومنذ أن غابت والدته وانقطعت عادة الطبخ فيه، صار البيت بالنسبة له مقتصرا على السباحة والنوم، أكثر من مرة حاول أبا فهد أن يطلب من ابنه التحدث مع والدته، كان يظن أن حديث الأم مع ابنها لا بد أن يكون مختلفا، وان تمكنت من أخذ عهد من فهد بعدم التعرض لأخته، فستنقذه من مهمة لا يريد أن يقوم بها، الا أن فهد أقسى من أن يحن على والدته.

رن هاتف أبا فهد، ودون أن ينظر للرقم الذي جاءه رد عليه:

- مرحبا ....

كانت شريفة على الطرف الآخر من المكالمة، منذ مدة لم يسمع أبو فهد صوت ابنته، ولم يكن يتوقع أن تتصل به:

- كيف حالك بابا؟

- ماذا تريدين؟

- ............

أجابها بكل جفاء، لكن سرعان ما رق قلبه لكلمة "بابا" هذه الكلمة لا يشعر بها الا مع شريفة، اما فهد فقدْ فَقَدَ معه شعور الأبوة مبكرا جدا، حتى أنه لم يعد يسمع كلمة "أبي" منه الا نادرا، استدرك أبو فهد رده :

- أهلا شريفة ...  

- بابا .. أعرف أنك تعيش أياما قاسية .. وأدرك أن ماما ورغم ارتياحها بمنزل خالي الا أنها تشتاق لبيتها .. لا ذنب لها فيما حصل .. أرجوك بابا .. عودا

- لقد عرضت عليها العودة ... فأبت

- لماذا تجبرنا على الاختيار بينك وبين أمور أخرى؟ لا تحرمها عائلتها .. ولا تحرمني والدتي أرجوك ..

- ..........

- بابا .. ألا تشتاق لابنتك؟


كاذب ان قال أنه لا يشتاق، كاذب ان قال أنه قادر على الحياة، دون الطعم اللذيذ الذي تضيفه شريفة وأمها لحياته، لم يكن أبا فهد يدرك أن صناعته لابنه بتلك الطريقة، ستجعل منه أول الخاسرين، للحظة فكر أبو فهد بأن يزمجر ويرعد ويصرخ في شريفة بل ويغلق الهاتف في وجهها، لكنه في ذات اللحظة أدرك أن هذه فرصته ليعيد زوجته مع شيء من كبريائه المجروح، همس لابنته:

- بلى أشتاق .. لكنك اخترت حياة أخرى

- لا زلت يا أبتي تصر على خلق جبهتين متصارعتين.. لست ضدك يا بابا .. ولم أشأ تحديك .. ولا أرغب بفراقك .. بل اخترت لي حياة كما اخترت أنت حياتك منذ ثلاثين سنة .. وكما فعلت أمي .. أبي كان يفترض أن تكون أكثر تفهما .. فقد مررت بذات التجربة.

- اذا .. فكما تسببت بخروج والدتك من بيتها .. أعيديها

- أنت الوحيد القادر على ذلك .. وتدرك الأمر تماما .. لم أر رجلا قادرا على مخاطبة زوجته والتأثير بها كما أنت

- لقد تغيرت والدتك .. يبدو أنها تأثرت بتمردك

- انما أنا من تأثرت بتمردها .. يقال أن التاريخ يعيد نفسه يا بابا .. لم يحصل شيء الا ان التاريخ عاد فحسب .. كان اسمها زينب .. فصار اسمها شريفة! فكر يا بابا .. الى اللقاء


أغلقت شريفة الهاتف، لتترك والدها في غمرة أفكاره المتصارعة، تتقاذفه يمينا وشمالا، اما أن يقبل فيخسر شيئا من كبريائه، أو يرفض فيخسر عائلته! عادت به الذكريات للتاريخ الماضي، حين وقفت زوجته بكل جرأة، لتجادل والدها ووالدتها حتى يقبلوا به زوجا، حينها كان علي في الجبهة المقابلة تماما ضد هذا الزواج، الا أنه ساهم في اقناع والديها بحقها في اختيار زوجها "لطالما كان علي أكثر نبلا منك يا أبا فهد!" في لحظة قرر أبا فهد أن يحسم صراعه، ركب سيارته وسار باتجاه بيت الحاج علي، ورغم أن المشهد الأخير هناك كان يعود لذاكرته، محذرا إياه من مشاهد تشبهه، الا أنه جد السير، لقد قرر حسم الأمر، سينهي عذابه الذي بدأ بتمرد ابنته، ولم ينتهي بتمرد زوجته، أحيانا نضطر لاختيار قرار نظن أنه القرار الوحيد الذي يمكننا الاستسلام اليه، قرار يحتاج للكثير من الجهد، والكثير من الجرأة، والكثير الكثير من العقل.  
 
 
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ...

الاثنين، 23 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (34)

تأخر الحاج علي في العودة لبيته، بينما من الواضح لأبي فهد أن حركة غريبة لا زالت تحصل بالقرب من البيت. فتح الباب مجددا وتقدم خطوات قريبة وصار يراقب الوضع من بعيد، أثناء انتظاره عادت زوجة الحاج علي وبناتها ترافقهن أم فهد، دخلن مسرعات للبيت، بينما كانت الفتيات تصرخن لهول ما رأين، وضعت زهراء منتظر في حضن والدتها، وأسرعت لوالدها. بمجرد أن اقتربت أم فهد من الباب وجدت زوجها واقفا هناك، مشغولا بمراقبة الخارج، بقيت واجمة تنظر اليه، بينما كان المنظر أمامه قد أشغل حواسه، فلم ينتبه لها.
ركضت زهراء باتجاه والدها مسرعة، كانت الدماء تملأ المكان، حتى ثلاجة السمك الموضوعة على الرصيف! وكان جارهم واقفا مذهولا وثيابه تقطر دما!! بينما العسكر يحيطون بالمكان، لقد لاحظت زهراء وشقيقاتها أن العسكر كانوا يركضون بينما يحملون طفلا!! ويبدو أنه جارهم، كان الحاج علي صامتا ينظر للجار وهو قلق عليه:
- بابا ماذا حصل؟ لماذا تغطي الدماء المكان؟ ومن الطفل المحمول هل هو ابن الجيران؟
نظر اليها بعينين متألمتين :
- سأذهب اليه .. لقد أطلقوا باتجاه طفله ثم حملوه معهم
تقدم الحاج علي لجاره، وضع يده على كتفه، بينما كان الرجل يردد "قتلوه قتلوه قتلوه" هدأ من روعه :
- لقد شاهدته وهو يتكلم ويبكي .. اهدأ ولتقم معي لنذهب للسؤال عنه
- طلبوا مني الرحيل، يريدون ملاحقة الشباب الذي كانوا يهتفون في مسيرة، أخبرتهم أن على الرصيف الكثير من اشيائي وأحتاج وقتا لجمعها، لكنهم لم يمهلوني، أطلقوا النار باتجاهي وصار طفلي يصرخ، كنت اقول لهم لا تقتلوا طفلي لكنهم لا يسمعون، كيف يفعلون ذلك؟ ألم يروا أنه طفل لم يتجاوز الخامسة؟ هل كان علي أن أتحدث معهم بلغة أخرى؟ ماذا أفعل الآن؟ أين أخذوا طفلي؟ هل سيخفونه كما أخفوا أبنائنا سابقا؟
صارت زهراء تبكي. كيف للانسان ان يتحول لآلة قتل بشرية؟ فيغمض عينيه وقلبه وحواسه، ويعطل عقله ويطلق العنان لعضلاته وأسلحته؟؟! لسنا في ساحة حرب! حتى ساحات الحرب يبعد عنها الاطفال، ويستثنى منها الصغار؟ فلم لا يستثنى أطفال هذا الوطن؟ ولم يعاقبون منذ طفولتهم لأنهم ولدوا من رحم هذه الأرض العصية عليهم؟!! ان كان ذنبا للكبار؟؟ فما ذنب الصغار!
كان منظر الدماء المتناثرة، ينبؤ بحجم الكارثة، اصابة مباشرة في العين، هكذا شخصت حالة الطفل أوليا، طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره، كان يلهو بالقرب من بسطة والده بائع السمك، يحاول أن يعيش رغم الفقر رغم الألم طفولته التي لا بد أن يعيشها، لم يكن يعرف أن ألف باء الطفولة تختلف من رقعة جغرافية لأخرى، وعلى أرضنا وفي داخل رقعتنا الجغرافية، يعيش الأطفال ألف باء طفولتهم بين الغازات الخانقة ورصاصات اقتناص الطيور، تقتنص أرواحهم وأبصارهم أحيانا!!!
عاد الحاج علي لبيته، بينما لا زال أبو فهد واقفا هناك، يسمع حسرة أب على طفله، يقرأ على قسمات وجوه كل الأهالي الذين تجمعوا سؤالا مشروعا لا اجابة له، "لماذا؟" لماذا تغتال طفولة أبنائهم؟ لماذا تهتك حرمات أعراضهم؟ لماذا تسفك دمائهم؟ لماذا لماذا لماذا؟!!
نظر الحاج علي لأبي فهد نظرة جادة، لم يكن يريد أن يُقرَأَ في عينيه الألم، بل الشموخ والقوة، رغم كمية القهر والغبن الذي شعر بها الحاج علي تجاه أبا فهد آنذاك، الا أنه طلب منه بكل رباطة جأش أن يتفضل لمكتبه. لم تدخل أم فهد للمنزل الا بعد أن غاب زوجها بالداخل مع شقيقها، وبعد ان استقبلت زهراء وهي منهارة :
- اهدئي يا زهراء .. عرفت أنك أقوى من ذلك
- تخيلته منتظر يا عمتي .. مم خلق هؤلاء؟ لماذا اعتدوا عليه؟ .. ليس سوى طفل.. ولطالما لهى في باحة منزلنا ببراءته أو جاءنا لاستعارة شئ لأهله!!
لقد توجهت زهراء بالسؤال للشخص الخاطئ، فأم فهد لا تعرف الاجابة؟؟! أو ربما ليس باستطاعتها أن تعبر عن الاجابة التي تسكنها، فرغم أنها صارت تتفهم بعض الشئ الا أن تركيبتها لم تعد تشبههم ، وعباراتها صارت غير مفهومة لهم:
- لم أشأ أن أرى ذلك .. بل لم أشأ أن يحصل .. كان الله في عونه وعون محبيه

هدأت الأصوات خارج المنزل، وخيم السكون داخله، كانت كل الدنيا مذهولة من وحشية بني الانسان! كيف سينشأ الطفل الذي أصيب لأنه كان يلعب؟!! أصار اللعب واللهو جريمة توجب العقاب؟!! كيف من الممكن ان يشعر طفل كهذا الطفل بالأمان مرة أخرى؟ كيف سيشق طريقه في دروب الدنيا، ان كانت ملغمة بآلات القتل البشرية؟؟! أسئلة كثيرة كانت تقتحم نفوس الناس، غضب شديد كان يسكن أرواحهم، لكنهم لا يملكون الا الصبر والمقاومة والابتسامة، يسبق ذلك كله أمل صار يستغرب كثيرون أنهم لا زالوا يمتلكونه!
أجلس الحاج علي أبا فهد في مكتبه، معتذرا عن الفوضى التي تسبب بها "أصدقائه"، تبسم أبا فهد من تعبير الحاج علي:
- يبدو أنك ستعاقبني على ما جرى بالخارج..!
- لا يا أبا فهد .. فسياسة العقاب الجماعي ليست سياستنا .. أنا فقط وصفتهم .. أليسوا زملائكم في العمل؟ وأصدقائكم في مدينتكم؟
- دعنا من ذلك كله .. جئتك في أمر محدد
- أرى أن بينكم عشرة عمر .. والأولى مراعاتها يا أبا فهد .. أختي هنا في بيتها معززة مكرمة.. لكن لا يرضيني أن تنتهي كل سنواتكما الماضية بسبب أمر لا ذنب لها فيه
- اذا انت من زوجت شريفة لهذا ....
- أبا فهد .. شريفة على أعتاب عامها الثلاثين ان لم تجتازه .. وهي أمرأة ذات تجربة وشرعا .. هي من زوجت نفسها .. لا يملك أحد ان يمنعها أو يجبرها .. حتى أنت فيكف بأختي!!
- لكنها علمت بذلك .. فالتزمت الصمت!!!
- هل كنت تنتظر أن تأتيك بسلاحك لتوجهه الى صدر شريفة؟؟ انها أم يا أبا فهد .. ولا يهمها في الكون سوى سلامة بيتها وعيالها!! ما لك كيف تحكم؟ أكان حلال عليك أن تنزع أختنا منا؟ ومحرم عليها أن تلتزم الصمت لتحفظ أمن ابنتها منك يا أبا فهد؟ هي أكثر انسان في الكون يعرف كيف كان من الممكن أن تتلقى خبر زواج شريفة .. انها لا تأمنك رغم حبها لك وثقتها في تعلقك بها..
- اسمعني يا حاج علي ...
- اسمعني يا أبا فهد .. لم أحضرك هنا لأترجاك أن تعيد أختي .. أنا أفعل ما يمليه علي ضميري .. وأحاول اصلاح ذات بينكما .. انها فرصتك أنت .. استثمرها أو ضيعها .. هو شأنك
- ما رأي أم فهد في هذا الكلام؟
- انه رأيي .. ولها أن تقبله أو ترفضه هي أيضا .. لم أحضر أيا منكما لأجبره على أي خيار .. ان شئت دعوتها اليك ... فإسألها .. وأكون قد أرحت ضميري للمرة الثانية في تعاملي معكما .. كلاكما
صمت ابا فهد مدة، لم يعتقد أنه سيصطدم هكذا بالحاج علي، ظن أن أم فهد هي من ستستقبله ربما، وتطلب منه أن يعيدها، لكنه يعتقد أن الحاج علي محكم على زمام الأمور، فطلب زوجته لعله يفوز على الحاج علي في هذه الجولة أيضا!
دخلت أم فهد شامخة الرأس، سلمت عليه شفهيا، وجلست أمامه مباشرة:
- أهلا أبا فهد .. أخبرني شقيقي أنك تريد محادثتي
- بيتك مظلم دونك يا أم فهد
- اطلب من فهد أن ينيره لك
لم تكن أم فهد قادرة على رسم بسمة أمامه، للتو شعرت أنها حانقة عليه، كيف سمح لها بالخروج من منزله؟! كيف كان باستطاعته أن يتجاهل غيابها؟ ولم كان يحتاج أن يدعوه شقيقها حتى يأتيها؟ ظنت أن اليوم الذي تخرج فيه من بيته، سيكون آخر يوم سعادة له، لكنها كانت واهمه، فأبو فهد أقسى مما كانت تتصور! لطالما قالت لابنتها أن والدها يظهر القسوة، بينما يكتنز حنان الدنيا، فأين حنانه اليوم؟
أبو فهد كان ينتظر أن تستقبله زوجته وهي راجية متأملة أن يرضى عنها، ظن ان استقبال الحاج علي كان تحت الحاحها لا بقناعته! لكن يبدو أن ثمة ما طبع بقلب هذه المرأة، يبدو أن أبا فهد غفل عن معنى جرح قلب امرأة!
يخطأ في حساباته من يعتقد أن جرح المرأة سهلا يسيرا، انها تحتضن داخل قفصها الصدري قلبا رحيما يجيد الغفران، لكن متى ما حاول أحدهم أن يفقأ عين هذا القلب، فستدافع عنه بكل شراسه، وستنصب حوله شركا ينتف ريش كل طائر يحاول الاقتراب منه؟! ستقيم من حوله خنادق من لهب ونار ليحرق كل من يتجرأ على النظر اليه فضلا عن محاولة نهبه! تحول ابا فهد من لهجة المتعالي الى لهجة الزوج، والتي يجيد بها مخاطبة أم فهد :
- لنعد لمنزلنا يا أم فهد
- أهو منزلنا حقا؟
- ولن يكون الا منزلنا ...
- ماذا عن ابنتي؟ ماذا لو أرادت زيارتي وأردت زيارتها؟
انتفض أبا فهد غاضبا، ووقف على رجليه:
- هل تتحديني يا أم فهد؟
بقلب متألم نظرت اليه:
- وهل في كوني أما تحديا اليك؟؟ ان كان تحديا فأنت من خلقت هذا التحدي لا أنا
- باختصار شديد .. أخبريني ماذا تريدين؟
- لا اريد أن أخسر أيا منكم .. لا أنت ولا فهد ولا شريفة ... ولا عائلتي هذه .. !
- لكنها ابنة عاقة .. لقد استبدلتنا بعائلة جديدة
- أكان زواجي منك استبدالا لعائلتي؟ ألهذا منعتني عنهم؟ ألهذا قطعتني عن زيارتهم؟؟
صمت أبا فهد، هو لا يملك مبررا لما فعل، الا أنها سمحت له بذلك ..  فأجابها:
- طلبت منك أن لا تزوريهم فحسب .. لم أجبرك
ضحكت أم فهد باستهزاء:
- طلبت مني أن لا أزورهم وطلبت أيضا أن لا يحضرون للمنزل .. بالله عليك ماذا تسمي ذلك؟؟؟
- دعينا من الماضي .. نحن في يومنا هذا
- باختصار شديد .. قد أقبل العودة للمنزل لكن بشرط أن أكون سيدة علاقاتي .. فابنتي ستظل ابنتي أزورها وتزورني .. وأنت من تضمن لي سلامتها منك ومن فهد .. كذلك أريد أن أعود لمنزل شقيقي ... لقد وجدتهم بعد أن فقدتهم ولا اريد خسارتهم
- وهل تريدين خسارتي؟
- بل أريدكم جميعا .. لكنك مصر اما أن تمتلكني أو تبيعني .. وأنا لست ملكا لأحد
- .......
- أَبَيعٌ يا أبا فهد ... أم شراء؟
نظر اليها طويلا، ما شاهده بأم عينيه منذ قليل، هو واقع عائلتها الذي يعتقد أنه أنقذها منه، لقد انتشلها من قرية فقيرة مهمشة، لم يكن أهلها قادرون على الانفصال عنها، رغم سكنهم بمنطقة أكثر هدوءً، وها هم قد عادوا اليها بعد حين!
- لن تتمكني من العيش هنا
- لقد كنت قادرة على العيش معك .. فكيف أعجز عن العيش معي أهلي؟!
- عودي يا أم فهد .. عودي ..
- وابنتي؟ وأهلي؟
- سنتفق بعد ذلك ..
- لا يا أبا فهد .. احتاج منك موثقا
بانت علامات الغضب على وجهه، لم يعد معتادا على أن تكسر له زوجته كلمة! لقد كانت ذات فكر نير، واضحة البيان، صاحبة رأي، لكنه أجاد ترويضها، حتى لم تعد قادرة على الاختلاف معه، مسح شخصيتها تماما، وصارت تفكر من خلاله وبعقله ووفق مبادئه، أهذه معجزات الحب؟! أن نتنازل عن أنفسنا؟! أن نسمح باهدار كراماتنا؟ أن نتنازل عن عقائدنا!!! انه الموت بدعوى الحب! وربما أخيرا استفاقت أم فهد من غيبوبة موتها!
كبح أبو فهد جماح غضبه، بدأ يعيد الهدوء لنفسه "لن تستفيد شيئا من غضبك .. لا بد أن تعطيها ما تشاء الآن .. ثم لكل حادث حديث"
- لنعد للبيت .. أعدك أننا سنفكر معا .. كسابق عهدنا .. ونتخذ القرار معا أيضا
- لا أريد منك قرارا .. لقد اتخذت القرار .. أحتاج منك لامضاء .. اما معه أو ضده
ضرب أبو فهد الطاولة بكل قوته، حتى كادت أم فهد أن تقفز من مكانها، لكنها تماسكت تماما، تعرف أن أي رسالة ضعف أو خوف ستتسبب باستقواء زوجها، ابتسمت له ثم أخبرته أنها على موعد مع شريفة، وانها ستنتظر منه ردا، وأملها فيه الى خير. استأذنت منه وأمام ذهوله خطت للخارج بكل ثقة.
بمجرد أن خرجت أم فهد، عاد الحاج علي لمكتبه، قرأ في مشية أم فهد "انتصارا" لكنه لم يعرف نوعه، وقرأ في عيني أبا فهد التي كانت تصدر شررا "هزيمة" لكنه أيضا لم يعرف نوعها، ظل واقفا أمام زوج أخته، لا يدري أينتظر الرجل زوجته أم ينتظره، أمام صمت أبا فهد، بادره الحاج علي:
- اذا ... الى ما توصلتما؟
- يبدو أنك دربتها جيدا يا علي ... وستدفع الثمن غاليا ..!!
غادر أبا فهد، لكنه ترك في منزل الحاج علي، غروره الذي شكته أم فهد للتو بابرة اصرارها.
كان قلب أبي فهد يمتلئ حنقا "ما الذي حصل لزوجتي؟ أيعقل أن بقاءها هذه الأيام بمنزل شقيقها أعادها للحظة الصفر؟ لا يمكن أن يكون الأمر هكذا!! ان هناك سرا لا بد أن أعرفه!"
يعتقد الكثيرون أنهم قادرون على إفراغ عقول الآخرين بسحر كلماتهم الرنانة، حين يُلبسون الباطل حقا، وحين يزمجرون بالحق امعانا في تثبيت الباطل. ينسون أن الانسان السوي لا بد أن تكون له لحظة يقظة، وحين يقظته لن يرحم المخادعين والكاذبين، سيلوح عند وجههم تماما متحديا ارادتهم الكاذبة، وسيغرقهم في أوهام لطالما أغرقوه فيها قبل أن يستيقظ.
بقيت صورة الطفل المصاب، عالقة بذهن أبي فهد، كان ينتظر أن تكون سببا لترتعب زوجته من البقاء في منزل شقيقها، وتعود لبيته الهادئ هاربة من واقع مزري يعيشه أبناء القرى. بقيت بعمق عقله اللاواعي متشبثة ببقايا انسانية تكاد أن تندثر تحت نواياه وظنونه السيئة وبقبر أنانيته، صار يضع رأسه لينام ليلا فيقتحم نومه صوت بكاء الطفل، وهو ينظر اليه مادا اليد نحوه!! فيستيقظ هاربا من ذلك البكاء!
استمر به الحال يوما ويومان وثلاثة أيام، حتى لم يعد قادرا على النوم أو الاستيقاظ، صار يقترب من حالة جنون لا يعرف لها سببا! لم تكن تلك الاصابة الأولى التي يعرف عنها أبا فهد، لم يكن ذلك الواقع الانساني الصعب، ببعيد عن علمه ومعرفته، لكن أمرا رسخ في عقله وقلبه حين وجد المشهد ماثلا أمامه. رجل وبجانبه ثلاجة سمك، يحاول أن يبيع ما يقدر على بيعه، ليطعم بثمنه طفلا يلهو بالقرب منه، انقض عليهما العسكر، وصاروا يطلقون أعيرة نارية حية، استقرت ببصر ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة! من يستحق مثل هذه الحياة؟ وما جرم أهل هذه القرى؟ عادت لمخيلته صورا قديمة كان يضعها أمام عينيه الحاج علي في شبابه، صور لم ترسم بل كان يتخيلها والحاج علي يصف عذابات السجن اليه، ليسأله في كل مرة "أترانا نستحق ذلك يا جاري؟ أليس ثمن العدل أبخس؟" ومنذ ذلك الحين وأبا فهد يهرب من هذا السؤال، ها هو طفل في الخامسة من عمره يسأله " ترانا نستحق ذلك يا هذا؟ أو ليس ثمن العدل أبخس؟!" ليجد نفسه وبعد أكثر من ثلاثين سنة، هارب من اجابة بسيطة قد تبعده عن الكثير من الامتيازات، فيتشبث بها حتى يقضي على بقية انسانيته التي تذوي كل يوم أمام انكاره لعاطفته ومبادئه الفطرية، التي لا تقبل أن يهان انسان أمام انسان دون وجه حق! لا زال أبا فهد مصرا على الهروب من أن يقول كلمة حق يعرفها تماما "انما تسعون للعدل وكل انسان سوي يجب أن يسعى اليه معكم"!


ألتقيكم في الحلقة القادمة ...

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...