ابحث في مدونتي

الأربعاء، 28 يناير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (18)




لم تصدق شريفة عينيها، أيعقل أن تولد من بطن الموت حياة، أيعقل أن ينجب الحزن فرحا، اسبوعان كاملان يفيضان وجعا تكون خاتمتهما راحة!!

احتضن حسن صديق عمره فضل، تحولت دموع الحزن والمرارة، الى دموع فرح وسعادة، فضل بخير وجاء مودعا مسلم:

- أين كنت لقد كنا نموت في اليوم الف مرة؟

- شاء الله أن أكون بخير يا حسن، لكني أصبت يومها وأنقذتني عائلة كريمة، خشيت كثيرا عليهم، لذلك فضلت أن أبقى عندهم حتى أتمكن من الخروج فلا أعود مرة أخرى!



هو اللطف الإلهي الذي يُغلّف الألم بالأمل، والحزن بالفرح، واليأس بالتفاؤل، من غير الله قادر على أن ينتشلنا بحبل الصبر من حزن سحيق؟ من غير الله قادر على قهر غلظة الموت ببسمة اللقاء؟ أجواء سعادة رفّت على تلك العائلة، بينما تدس ابنها بالتراب مستقبلة فضل بالترحاب.
                                  
                                                         


بحزم شديد طلب الحاج علي من فضل وحسن ان يختفيا تماما، وسرعان ما تحولت لحظات اللقاء السعيدة، للحظات وداع متأمّلة، كان فضل ينظر لشريفة مليا، بعمق قلبه كلمات، صار مؤمنا بها ويحتاج للإفصاح عنها، استأذن فضل من الحاج علي ليُحدث شريفة:

- أعتذر عن كل الألم الذي سببته لكِ، وأود بشدة أن أخبركِ، أني لو كان مقدرا لي أن أختار حياة، لاخترت حياة تشاركيني إياها، لكن شاء الله أن أكون غريبا في وطني، أحلامي مؤجلة حتى يأذن الله لنا بفرج، أرجوا لك حياة سعيدة.



لم تتمكن شريفة من الكلام، ماذا عساها تقول؟! ألم تكن تنتظر هذه الكلمات؟ فلماذا شعرت بالحزن يغمرها اذا؟! انها الحسرة قد ملأت قلبها، لماذا ترفض الأمنيات أن تكتمل؟ لماذا نبحر عبر بحر لجي وحين نوشك أن نصل لبر الأمان، يكون سرابا؟! لماذا تحولنا لسفن لا مرافئ لها، تبحر وتبحر وتبحر حتى يعطبها العمل؟!



مجددا انيطت بشريفة مهمة النقل، نقل الشابين للمكان الآمن، طوال الرحلة كانت هي تمتلئ بالكلام وفضل يمتلئ بالحسرة، شعرت العمة بروح الشابين المتألمتين، لكنها خشيت أن تباغت أوجاعهما بكلمة، فاختارت هي أيضا الصمت، مرت عمليتا نقل الشابين بأمان، وعاد فضل لشقته الآمنة هذه المرة يرافقه حسن، لم يعد مسموحا لهما بالخروج، لم يعد مسموحا لهما باستخدام الهاتف الا عبر برامج معينة، وصارت احتياطات الأمن أضعاف ما سبق. مُلأت الشقة بالكتب، ووضع الشابين خطة لاستثمار وقتهما الطويل، كان فضل متمكنا جدا في اللغة الإنجليزية بسبب خوضه لسوق العمل مبكرا، بينما كان حسن فارسا يمتطي النحو ببراعة، يجيد التجويد ويقرأ القرآن بترتيل وخشوع، صار يومهما موزعا بين العبادة والقراءة والتعلم، يتخللهم شئ من البوح والترفيه.



كان حسن بعيدا عن فضل مدة من الزمن، غيبته عن أحوال ابن خالته وصديقه، لكنه وبمجرد أن عاد لخارطة الحياة، علم أن بقلب فضل حكاية لكنه لم يفصح عنها، سأله ذات يوم بابتسامة ماكرة:

- كيف حال قلبك يا بن خالتي؟

بابتسامة ساخرة أجابه:

- لا زال قويا كما تعرفه

- لا زال فارغا أيضا؟

تنهد فضل وتغيرت بسمة شفتاه:

- وهل يمكننا أن نملأه؟ انظر لحالك لقد تعلق قلبك، وتزوجت بمن تعلق بها قلبك، فأين وصلت؟

- وصلت لولي عهدي.

ضحك الاثنان وأكمل فضل:

- لكنك لا تدري ستراه أم سيطول بكما اللقاء!

- حتما اذا أمد الله في عمري فسألقاه وفي لحظة ولادته

- ما هذا التفاؤل يا حسن!!

- وهل كنت اظن أن أتزوج زهراء؟ وهل كنت أظن أن أحظى بحريتي هذه؟ وهل كنت أظن أني سألقاك بعد غيبة ظننا أنا سندسك بعدها في التراب؟؟ فضل يجب أن تكون واثقا من لطف الله، لقد بدّل الله حزني على مسلم فرحا بلقائك! أقسم بالله أني اخجل من يأسي أمام لطفه، ولا بد أن تثق فيه، لا بد أن تستمر الحياة رغما عمن يغتال أفراحنا واحد بعد الآخر، لا بد أن تظل ابتسامتنا على وجوهنا حتى وان لقينا الموت، فضل لقد تعلّمت منك معنى الإصرار، فلم يغتل السجن في طفولتك، حلمك بأن تتعلّم وتواصل دراستك!

- أنا محتار جدا

- فيم؟

- في قلبي!

- اسعى وراء ما تريد يا فضل، لا تستسلم !



وضعت شريفة رأسها في حضن عمتها، وصارت العمة تمسح على شعر ابنة اخيها، انها تدرك حيرتها تماما، لكنها ليست متأكدة من ملامح تلك الحيرة:

- أفصحي يا ابنتي ماذا تكتمين؟

بابتسامة أجابتها شريفة:

- لا شيء فقط صرت أحتاج لأم بديلة فلجأت اليك

- أدام الله أمك ولا حرمكما بعضا

- عن أي أم تتحدثين؟ انها تعيش في كوكب آخر بعيدا عن الكوكب الذي أحيا عليه، رغم ملاصقة غرفتينا ببعضهما.

- اسمعيني جيدا يا ابنتي، لا تكرري خطأها، لا تتركي أمك مهما كانت الأسباب

- لا اعرف كيف تحتفظين بصداقتها للآن رغم اختلافكما البيّن

- لقد تعاهدنا بأن نظل صديقتين، وان شعرنا أن اختلافا بيننا في الرأي أو أسلوب الحياة سيفرقنا فنكتفي حينها بالنصح، فصرت أنصحها أن تتشبث بأسرتها وصارت تنصحني أن ابتعد عن أسرة زوجي وعمله ونشاطه، فبقينا صديقات لأننا نجيد الاصغاء لبعضنا

- لكنها لا تجيد الاصغاء لي

- ستبقى أمك وأنا يا حبيبتي أصغي اليك فأفصحي



لم تتجرأ شريفة على البوح، رغم أنها تشعر بأن عمتها تعرف ما يدور حولها، لكن يبقى من الصعوبة بمكان أن تخبرها عن مشاعرها، وان أخبرتها فماذا سيتغير! فضل أخبرها أنه يبتغيها زوجة، لكنه غير قادر على الزواج، غير قادر على التواصل معها، غير قادر على أن يكون فردا في مجتمع، اذ لا بد أن يَغيب حتى لا يغيِّبَه اعداءه، هل تُراها تحتاج لنصح وارشاد؟ حاولت شريفة أن تدّعي انشغال بالها بحال صديقة لها:

- عمتي مؤخرا تشغل بالي صديقة قديمة طلبت نصحي لكني لم أملك لها رأيا

- ما بالها؟

- يبدو أنها متعلقة بشاب يعيش ظروفا صعبة، لم تفصح له بذلك ولم تكن متأكدة من مشاعره، لكنه مؤخرا أخبرها أنه يتمناها زوجة لو لا ظروفه

بذكاء قرأت العمة حيرة ابنة اخيها، فسألتها:

- تربطهما مشاعر اذا؟

- الى حد ما

سكتت العمة لبرهه، وحاولت أن تختبر شريفة فقالت بجدية متصنعة:

- لا بأس سينسيان بعضهما بمجرد انشغال كل منهما بحياته

دق قلب شريفة بقوة "هل يُعقل أن أنسى فضل؟ وهل يعقل أن ينساني؟ ربما هو قادر على ذلك، فمجتمعه مليء بفتيات ربما يفهمنه، فهو ابن مجتمعه، لكن من أين لي بانسان يكون هو مجتمعي كما فضل!" بتلقائية شديدة قالت شريفة لعمتها:

- هل يعقل أن ينسى الانسان روحه التي وجدها عند الآخر؟

- اذا فما يربطهما ليس مجرد مشاعر، فان كانا يعتقدان أنهما سيكملان بعضهما، فلا بد أن يناضلا، لا بد أن يناضلا ليكوّنا أسرة قوية في مجتمعهما، نحن من يخلق الظروف أو هكذا يجب أن نكون.



قلبت العمة حال شريفة رأسا على عقب، ربما يعتقد البعض أن النضال يعني أن تواجه خصما أو أن تسترد حقا، بينما النضال أحيانا يكون عبر صناعة حياة، بأن نصنع الحياة التي نريد، لا أن نرضخ للحياة التي فرضت علينا بحجة الظروف، نحن لم نختر أبوينا لكن حتما نحن من يختار نفسه! " اختاري يا شريفة اما النضال واما الرضوخ"!

كل من يقترب من شريفة وفضل، يكتشف أن ثمة انسجاما نادرا بينهما، فحين تتحدث يجيد هو الاصغاء لها، وحين يتحدث تجيد هي فهم قصده، أحيانا يشعر الحاج علي أن بال الشابين ينشغلان بذات الموضوع في نفس الوقت، ودون أن يخططا لذلك، فحين تقرر شريفة أن تلفت نظر الحاج علي لأمر مهم، يقوم فضل بلفت نظر الحاج علي لذات الأمر!



ذات ليلة قرر الحاج علي أن يخوض مع الشابان حوارا مصيريا، فطلب من الجميع أن يحلوا واجبا كل على حدة، حسن وزهراء وفضل وشريفة، "ليختر كل واحد منكم فردا من المجموعة وليكتب فيه صفتان، صفة يتمنى لو تتغير وصفة يسعى للاقتداء بها، أنا الوحيد الذي سيطلع على اجابتكم" انتظر الحاج علي إجابات الجميع، ولأن حواراتهم تكون غير مباشرة كاحتياط أمني، فقد استلزم ذلك أياما حتى حصل الحاج علي على كل الإجابات، فتحها وصار يقرأها بتأنٍ، كان حسن يتمنى أن يعود فضل لسابق عهده، شابا عازما لا يفل ارادته ظرف قاس، أما زهراء فقد أبدت اعجابها بقدرة شريفة على التغيير، فضل كان يرجوا أن يكون كحسن، الذي يحمل ايمانا صلبا لا تقهره الظروف، شريفة كانت الأكثر تفصيلا، فقد كتبت:

(أعرف أنكم جميعا تنظرون لي نظرة رضا، لكني أجد في نفسي ضعفا شديدا، فأحتاج لصلابة زهراء، وايمان حسن ورجاحة عقل خالي علي، وكنت أتمنى لو صار فضل أكثر جرأة في قهر ظروفه)

لم يعد الحاج علي بحاجة ليحدَّث الشابين، لقد عزم على أمر ما. بعد أيام من قراءته لإجابات الجميع، طلب الحاج علي من شريفة أن تمر لأخذه من منزله: "هناك مشوار لا بد أن نذهب اليه معا" بكل بساطة أجابت شريفة خالها، واتفقت معه على موعد ربما سيكون الأهم في حياتهم جميعا.


ألتقيكم في الحلقة القادمة ...

الاثنين، 26 يناير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (17)




 
هو جزء مختلف في مناسبته، فهذه أيام نستذكر فيها تفاصيل جريمة قتل الشاب فاضل مسلم أثناء مطاردة شباب آخرين واعتقالهم، فاضل هو أحد أصدقاء الشهيد علي الصباغ "ابن عمتي" الذي لم أعد قادرة على تذكر تفاصيل تتعلق به دون نطق اسمه .. فاسمحوا أن أهدي هذا الجزء من القصة لروح الشابين فاضل وعلي واستميحكم العذر لأني لم استخدم اسميهما رأفة بقلب أحبتهما ولأني اقتبس شيئا من قصتهما ولست في صدد سردها تفصيليا..

فابدأوا هذا الفصل بإهداء الفاتحة لروحيهما وروح كل شهيد من شهداءنا

-------------

كان فضل يركض مسرعا، محاولا أن يصل لأي منطقة آمنة تمنع اعتقاله، الا ان صوت الرصاصة أرعبه وأجبره على أن يتخذ وضعية الاستلقاء، لقد كان قريبه ملقى على الارض ويبدو أنه غير قادر على الحراك، لحظات وصار فضل يزحف باتجاه قريبه محركا اياه، محاولا حمله معه، الا ان العساكر صارت تقترب راجلة، وأصوات الطلق لم تتوقف، فتح الشاب عينيه بصعوبة بالغة مبتسما لفضل:

- اذهب يرعاك الله يبدو أني أوفر حظا منك

سحبه فضل الا ان الشاب غاب عن الوعي، العساكر صارت قريبة جدا، يمنعها من رؤيته الاشجار وليل الله الدامس، ابتلع فضل ريقه وصار يتمتم بدعاء خاص (اللهم اني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة)، سمى بسم الله وسلَّم الأمر لرجليه وصار يركض، كان يسمع أصوات الطلق التي كانت تغيب شيئا فشيئا، لقد انشغل العسكر بالشاب الملقى على الارض، ربما ظنوا أنه فضل أو حسن!



لم يتمكن حسن ليلتها من العودة للمكان المنشود، عاش مأزق تأمين موقع أكثر أمانا، لم يعد أحد يدري ما الذي حصل، كانت الاخبار تنتشر بسرعة عن طلقات رصاص مرعبة، وعن ملاحقات شرسة، لكن أحدا لم يعرف ماذا جرى للشابين المفقودين، انتظرت العائلتان لعلهما تسمعان صوت ابنيها حتى تطمئنان عليهما، لعلهما اعتقلا او لعل رصاصة جرحت بدنهما، لقد ذهب الأهالي في اليوم التالي ليستطلعوا موقع الملاحقة، لكن يبدو أن العسكر أخفى كل ما يمكنه اخفاؤه، لا يوجد أي أثر لأي شئ، لم يبق سوى شريط أصفر كان يحيط الموقع مزّقه الصبية بعد أن انسحب العسكر.

اجتمعت الأسرة القلقة، وأسرَّت زهراء لأبيها عن وضع حسن الحرج أيضا:

- لا نعرف إن كان فضل قد اعتقل أم لا لكن لم يعد مكانهما آمنا

- أكثر ما أخشاه أن يكون الشابين قد أصيبا وأنهم يخفون أمر إصابتهم

- ماذا نفعل أبي؟

- ننتظر يا زهراء لعلنا نعثر على شاهد عيان يبلغنا ما رأى

- لا أظن يا والدي، المكان في عمق مزارع القرية، بعيدا عن المنازل وهذا ما يجعلني أستبعد امكانية هروب فضل

حسن يعيش قلقا من نوع آخر، لقد صار يلوم نفسه كثيرا :
"لعل وجودي مع فضل بذات المكان كان الدافع لاستهدافه أكثر، ماذا لو أصيب ابن عمي مسلم، الشاب ليس مطاردا ولا مستهدفا! ماذا لو تعرض لتعذيبهم وتحقيقهم؟! ماذا لو شهد اصابة فضل أو تعذيبه؟ لم تمض أياما طويلة منذ أن فقد هذا الشاب صديقه".


 

إنّ ما يخشاه حسن هذه المرة ليس اعتقالا ولا اصابة، انه يخشى على قلب هذا الشاب، شباب بعمر الزهور تذوقوا طعم الفقد المر وبأبشع الطرق! مسلم صديق للشاب نضال، نضال الشاب المتحمس الذي ما توقف استهدافه يوما! يرافقه سنين صباه، يحمل عنه وجع سنوات المطاردة المريرة، يبلسم قلبه بابتسامة صاحبه التي لا تغيب عن ثغره، هذا الصاحب الذي خرج يوما ولم يعد، لم يره مسلم إلا جثة ملقاة على الأرض، تحيطها العساكر ساعات طوال مانعة عنها الأحبة والخلان، ذهب نضال وبقي مسلم يتجرع مرارة الفراق، لقد حمل نعش صاحبه رافعا يداه حتى عنان السماء، مسليا قلبه بكلمات الله (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ)! يستحق نضال أن يموت موتة شرف، لا يمكن أن يُصرع أمثاله إلا وهم واقفين، تماما كما غاب نضال عنهم واقفا شامخا مبتسما!


مضت الأيام ثقيلة جدا، حسن يعيش أياما صعبة، فضل ومسلم مفقودان لا يعلم عنهما الا الله، اسبوعين كاملين كان ذوي الشابان يموتون من القلق، في الدقيقة ألف ألف مرة، فكرت شريفة مرارا بأن تقتحم غرفة شقيقها لتطلب منه معرفة مكان الشابين، لكن هذه المرة لم يمنعها عن ذلك خوفها منه بل كبريائها "لا يلجأ لمجرم لاستنقاذ برئ"، لقد قسى قلبها أكثر لم تعد تطيق البقاء في منزلهم كثيرا، حتى صار وكأنه مجرد فندق تعود له لتغتسل وتنام وتغير ملابسها، لاحظت الأم أنّ ابنتها في حال يرثى له، واضح جدا أنها تعيش محنة ما، لكن لم تتمكن الأم من معرفة سبب قلق ونحول ابنتها، صارت تبحث عن أخبار أخيها وبناته لعل سوءا أصابهم وتسبب بقلق شريفة، الا أن الأمور كما عرفتها بخير، حاولت استنطاق ابنتها مرات عديدة وكانت شريفة حينها تلتزم الصمت والهدوء، هدوء غريب لا ينبأ الا عن وجع.


في فجر هذه الليلة، تلقت عائلة الشاب مسلم اتصالا مريبا، طلبوا منهم الحضور حالا وعلى وجه السرعة، الاتصال المريب وبقدر ما قذف بقلب الأم خوفا وقلقا أشاع الى جانبهما الأمل، الأمل بأن تعرف أنّ فلذة كبدها بخير، وأن موعد اللقاء معه قد حان، ذهب والدا الشاب للمكان المنشود، كانت الأم تمنّي النفس بأنها أخيرا ستلمس كفي ولدها، وبأنها ستحضتنه وربما تسمح رأسه، ستخبره أن دعاءها ارتفع الى السماء وعاد لها محمّلا برائحته وأخباره، ماعلمت هذه الأم أنها ستذهب لتلقى ولدها حقا، لكنها التقته بعد أسبوعين كاملين جثة هامدة!!!


بكل قسوة أخبر العسكر هاذين القلبين المنكوبين، بأن ولدهما كان مشاركا بعملية تهريب سلاح وأنه حاول دهس المدافعين عن أمن البلاد، فاضطروا لاطلاق الرصاص فأصيب هو وهرب صاحبه!!!

تبسمت الأم وهي تلمس كفي ولدها، احتضنته بقوة رافعة رأسها للسماء "لقد عاد الدعاء محمّلا بشهيد، فالحمدلله على عطاياه، اذهب بني فصديقك نضال ينتظرك، اذهب فكم أخبرتني أنك مشتاق إليه" مسحت الأم رأس ولدها فكان موضع الرصاصة ينبأ بالقصة الحقيقية، لقد أُغتيل هذا الشاب وقُتل ببشاعة، جريمته أنه ابن هذه الأرض، وأنه أحد أوعية العقيدة التي تأبى الذل والمهانة.

 

تسلمت العائلة في اليوم التالي جثة ابنها، طلق ناري عميق وعريض في رأسه من الخلف!! كدمات ورضوض في ظهره، وفي رقبته وخلف أذنه، وقطع أسفل شفته السفلى، وكدمات في الوجه، وسحوج في يديه، وجرح غائر في أسفل عظمة كتفه الأيمن، ورضوض أخرى وجرح في رجليه!! ودّع الأحبة الشاب في المغتسل، كان حسن الأكثر تأثرا بشهادة مسلم، اعتذر منه كثيرا لأنه فرّط بسلامته "لم أعلم يا ابن العم أني كنت أسلمك للموت سامحني أرجوك" تمسكه زهراء بقلبها المجروح، تحاول أن تهون عليه مصابه، تسند زهراء شريفة التي كانت تحتاج لمن يواسيها، فجأة دخل المغتسل شاب أعياه الوجع والحزن، صرخ مناديا حسن:

- لقد قتلوه يا حسن قتلوا عزيزنا مسلم


ألتقيكم في الحلقة القادمة

قصتي : حب في ن السياسة (16)

 
 
 
 
السِّجنُ يا طاغوتُ لا يقطعُ خيطَ الأملِ

السِّجنُ عــــِزٌّ للذي يرفضُ ذُلَّ الدُّولِ

لا نقبلُ العيشَ وفي الدَّولةِ طاغٍ أزلي

نريدُ حكمًا طاهرًا كحــكمِ مولانا علي(*)

 

خط حسن هذه الأبيات على جدار زنزانته، ليتركها مخلفا وراءه كتبه واشيائه وسريره الثنائي، الذي لم يتمكن من النوم عليه الا بضع ليال، في عدة أشهر بقيها في السجن، وذلك بسبب اكتظاظ الزنازين بالمعتقلين. هذه الأبيات انتقلت من غرفة لغرفة، نقشها المعتقلون بعزمهم وقوتهم على الجدران، ذلك أنها كانت تحكي حقيقة جلية، أن السجن والأمل صنوان متناقضان في بلادنا، فمن عمق الزنازين يتصدّر الأمل، ومن تحت القيود تتفجّر الحرية، هكذا انتزع حسن حريته من كبد جلاده رغما عنه وفي غفلة منه.
 
 
لقد عاش ومعه آلاف من الشباب ظروفا إنسانية قاسية، لا تختزل في ساعات وأيام التعذيب التي طالت عند البعض لعدة أشهر، لا تختزل في المنع من العلاج ومعاملتهم بأساليب حاطه بالكرامة، لا تختزل في شعور بعضهم بالعجز تجاه بعض، حين يُرمى أحدهم بزنزانة انفرادية لأنه رفض معاملتهم، أو دافع عن أخ له يشاركه زنزانته، لا تختزل في كونها "معاناة" بل "انتقام" منهم لأنهم ينتمون ويرفضون ويحلمون، لم يكن أحد هؤلاء الشباب يحب السجن، لكنه صار أحب اليهم مما يُدعَونَ اليه!
 
 
في الأشهر القليلة الماضية، ضاقت على حسن الدنيا بما رحبت، لقد تعرض عنبرهم للاقتحام أكثر من مرة، وفي كل مرة كانوا يتعرضون للضرب والركل والإهانة، لم يكن الانتقام منهم ومعاقبتهم يستلزم أن يصدر منهم أي تصرف يستفز جلاديهم، كانت انفاسهم استفزاز! لقد حاول المعتقلون أكثر من مرة أن يعقدوا مع جلاديهم هدنه، الا انهم يصرون على استفزازهم، هذه المرة مزقوا كتاب الله وكسروا الترب الحسينية فثارت ثائرة الجميع، وفي سبيل كبح جماح ثورة المعتقلين، ضُرب من ضُرب وجُرح من جُرح ونُقل للزنازين الانفرادية من نُقل، عقابا لكرامتهم التي أبت أن تلتزم الصمت. ظل حسن يعاني من جراحاته ساعات طويلة، حتى جاء الأمر بنقله للمستشفى وهناك، تنفس الشاب عبق الذكريات، وعبر الشوارع تذكّر حريته التي خلفها على أعتاب زنزانته، فجأة صار يسمع صوت زهراءه يناديه. يعتقد حسن أن أيام السجن ستكون طويلة فلا بوادر انفراجه في الأفق، انه شاب يجيد المقاومة فقرر أن يستنهضها من داخله مجددا، فكان له ما أراد!
 
 
 
 
 
بمجرد أن اختلى سريره، جن جنون جلاديه، فانتشروا حول محيط المستشفى، وداهموا منزل والده، ومنزل زوجته ليعتقلوا والده وشقيقه وزوجته ووالدها، في سبيل سحب معلومة تفيد بمكانه أو تُقر بمن أعانه على ما فعل، لكن لم يكن أي أحد يمتلك معلومات من الممكن أن تفيد بمكان هذا الشاب، وطبعا دفع زملاء حسن في الزنزانة ثمن جرأته، فاقتُحم عنبرهم من جديد ليتعرضوا جميعا للضرب والركل، ومصادرة الطعام والنقود، بل وحلاقة شعر بعضهم تماما زيادة في التنكيل بهم! كانوا يهدفون لزرع النقمة في نفوس هؤلاء الشباب على زميلهم، كانوا يريدون إشاعة الإرهاب والخوف من التفكير بالاقتداء به، لكن كلمة أحد الشباب رفعت مستوى غضب إدارة السجن أكثر حين قال:

- هنيئا لك يا حسن حماك الله
 
 
فأُقفلت عليهم أبواب الغرف، ومنعوا من الخروج لساحة اللعب التي لطالما حرموا من التنقل فيها! فكانت تلك الأبيات مجددا سلوتهم، يقضون أوقاتا شامخة بينما يرددونها رغم كل شيء ليسمعها جلادهم خلف قضبانهم، يقول السيد محمد حسين فضل الله: "الحرية لا تنطلق من الآخرين، بل إنها تنبع من ذاتك، حتى لو أُدخلت في الزنزانة وبقيت إرادتك حرة فأنت حر، بينما إذا لم تكن إرادتك حرة، فأنت عبد حتى لو انطلقت في الفضاء. القضية هي حرية الإرادة لا حرية الموقع. يقول الامام الصادق (ع): "إن الحر حرٌ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقهر".

 

ها هي الأيام تمضي، وها هو الحاج علي يرى حلمه يتحول لحقيقة أمام عينيه، ها هو فضل يخط حماسه على ورقه، ويستثمر حريته في خدمة بلده، ها هي زهراء تزأر منادية بمبدأ (البناء)، يعينها على ذلك زوجها حسن، أما شريفة فقد كانت نبتة غرسها ويرعاها خالها وفضل، نبتة صارت تكبر سريعا ويكادون أن يقطفوا ثمرها، نبتة صارت تستثير اعجاب الجميع ومن ضمنهم فضل، الذي صار يخبرها مرارا أنها لم تعد بحاجة لمراجعته، لكنها لا زالت تصر على ذلك يدفعها شعورها برعايته وصراحته وشفافيته، ولا زال منزل الحاج علي يتعرض للمداهمة أحيانا فهروب حسن يقض مضجع الجلاد، انه يحتاج لإعادة حسن لزنزانته ليستعيد شيئا من غروره الذي أهدره هذا الشاب!
 
 
 
 
 

بشيء من التنظيم والحذر، غيّر فضل مكانه ليكون مع ابن خالته، وبتنظيم أكثر وحذر أكبر، صار الشابان يخرجان ليشاركا ببعض الفعاليات والأنشطة، كان الحاج علي يخشى كثيرا عليهم من حركتهم تلك، وقد حذرهم مرارا منها، الا ان حماس الشباب يمنحهم الجرأة للمجازفة، لقد اشتاقا كثيرا للزيارات والتجمعات العائلية، فقررا يومها أن يكونا بين أحبتهم. في مكان ما تجمع الحاج علي وأسرته مع فضل وحسن وأسرتهما، وكانت هناك شريفة أيضا، كان الشابان بعيدين في جلستهما عن بعضهما، لكن كثيرا ما تلاقت عيناهما ليدرك الاثنان ان لدى كليهما كلام محبوس يخشيان البوح به!

 

لم تعد شريفة قادرة على الاستغناء عن مشاورة فضل بكل صغيرة وكبيرة، فمرة تسأله عن علاقتها بوالدتها، ومرة تبوح له بالغبن الذي تشعره بسبب شقيقها، وأحيانا تغالب مرضها بكلمات فضل التي صارت تبلسم روحها، كم كانت شريفة تتوق لتعرف مكانتها في نفس فضل، الا أن هذا الشاب يتكتم جدا على مشاعره، هي تفهمه تماما فهو يعتقد أنه لا يملك حتى نفسه، فقد نذرها لقضيته، فكيف يهب لها شيئا لا يملكه؟! كان الحاج علي يعرف ما يدور حوله، لكنه أيضا لا يملك للشابين شيئا، لقد طلب من شريفة أن تفكر دائما بعقلها، وان تضغط على زر اقفال مشاعرها، مؤكدا لها أن ما يجمعهم أمر يتفوق على المشاعر، انها تعي تماما خوف خالها، لكن أو ليست زهراء وحسن جزء من هذا المشروع؟ ألم تجمع هذان الشابان مشاعر نبيلة زادت حماسهما وقوت عزيمتهما؟ لم لا يسعى فضل ليكون كحسن؟

 

يتألم فضل كلما شعر أن على لسان وبقلب شريفة تساؤل يعجز عن الإجابة عليه، هو يدرك أنها مستعدة لدفع عمرها ثمنا للإجابة عن سؤال: "من تكون شريفة في نفس فضل؟" وهو قادر تماما على اجابتها لكنه لا زال يخشى كثيرا من مغبة البوح، يتساءل فضل كثيرا ان كانت شريفة تعي "ثمن" سُكناها في روحه، وثمن "مشاعرها" تجاهه، هو يعرف أن شريفة َالامس تختلف عن شريفة اليوم، فالخوف والاستسلام سمتان داستهما شريفة برجليها حتى لفظا انفاسهما الأخيرة في روح هذه الشابة، لكنه يخاف أن يُبعثا من جديد في روحها لو نطق بمشاعره تجاهها، أتراها تقوى على محاربة مجتمعها؟ أتراها تقوى على طردها من حنان الامومة؟ أتراها تتمكن من تصور حياة المطاردين والمشردين حتى تكون منهم؟! ربما تعيش شريفة بقرب زهراء مطلعة على صعوبة حياتها، فكيف ستقبل لتحيا مثلها؟

يعيش هذان الشابان ضمن دائرتين كبيرتين تتقاطعان عند مشاعر (الخوف) فيخشى هو أن يتقدم نحوها خطوة، وتخشى هي أن تخبره أنها قادرة على دفع ثمن اختيارها له!

 

كان الجميع يتجاذبون أطراف الحديث، وضع فضل رأسه في حضن والدته وصار يداعبها أمام الجميع، لقد أوجع المنظر الحنون قلب شريفة، فمنذ مدة لم تعد تضع رأسها في حضن والدتها، أما حسن فكان يحمل اخته الصغرى ذات الخمسة أعوام بشوق، وهو ينظر لبطن زوجته الذي صارت تخفيه عن أعين الجلادين، خوفا من معرفتهم ببذرة الحب التي زرعها الله في رحم زهراء. لقد اشترط الحاج علي أن تكون تلك الأمسية أمسية عائلية بامتياز، وحين دعا الاسرتين دعاهما بسرية تامة ودون أن يخبرهم بأنه يخبأ لهم مفاجأة هي وجود حسن وفضل بينهم، لقد أصر الحاج علي على انهاء الأمسية قبل موعدها، في ظل رفض الجميع:

- دعنا يا حاج علي فلم ترتوِ انفسنا من ولدينا

هكذا ترجت أم حسن الحاج علي ليبقوا زمنا أطول، لكنه أخبرها أن عيون الأعداء لا تغمض، وأنه يريد أن يفوِّت عليهم أي فرصة للانقضاض على حسن وفضل، فكان له ما أراد. انفضّ جمع العائلة تدريجيا من المكان الذي تجمعوا فيه، وأصر الحاج علي أن ينتقل فضل وحسن كل على حدة زيادة في الاحتياط، فان عثر على أحدهما لا سمح الله، تمكن الآخر من الإفلات، فانتقل فضل في سيارة مع أحد افراد اسرته، وانتقل حسن في سيارة أخرى مع فرد آخر، وتوجهوا للمكان الذي صارا يقيمان فيه مؤخرا.
 
اثناء عملية النقل تلك، لاحظ أحدهما أن سيارة صارت تلحق بهم، فخشيا التوجه للمكان مباشرة لئلا ينكشف، فغيرا طريقهما الا ان السيارة ظلت تلاحقهما، أجرى فضل بضع اتصالات سريعة بوسائل تواصل غاية في الأمن، وصارا يسيران على غير هدى، دب الرعب في نفس سائق السيارة وصار فضل يطمانه: "سنجد حلا حتما فقط أريدك أن تتوجه لمنطقة الحدائق تلك تعرفها حتما؟" رد الشاب بالإيجاب وتوجه لتلك المنطقة، توغل الشابان لعمقها محاولان تضييع تلك السيارة، الا ان اعداد السيارات زاد، وفجأة انبثقت الانوار منها، وصاحت صفاراتها عاليا، أدرك فضل أنه كمين لاصطياده، فطلب من سائق السيارة أن يتركها ليهربا، فقذفا نفسيهما من السيارة وصارا يركضان، فجأة ارتفعت أصوات الطلقات، حاول الشابان الهرب والابتعاد، لكن يبدو أن رصاصة نجحت بالوصول لأحدهما معيقة تقدم الآخر، فقد كانت الصرخة مدوية تحكي حرارة الألم..!
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ..
 
___________________________________
(*) الابيات من نظم الشاعر محمد المخوضر "أبو مقداد"

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...