ابحث في مدونتي

الجمعة، 25 سبتمبر 2020

التطبيع.. حرية شخصية

 





نعيش في مجتمع ذي منظومة قيمية واضحة لمرجعية عقائدية معروفة، منظومة ثقافية أخلاقية قيمية تدعو أكثر ما تدعو إلى مبدأ التكافل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل الكثير من العبادات هي عبادات جماعية توثق جانب التكافل والأمر بالمعروف كصلاة الجماعة والزكاة والخمس والحج، وبطبيعة الحال فإن التزام أبناء هذه المنظومة يتفاوت من عائلة لأخرى ومن فرد لفرد، يتعمق عند بعضهم ويتمظهر عند بعضهم الآخر ويضعف عند آخرين.


ولعل الالتزام بين الناس ينقسم إلى نوعين: التزام فكري والتزام سلوكي، قد يجتمع النوعان في فرد وعائلة وقد يفترق بنسب مختلفة، فيكون فرد ما ملتزما فكريا بشكل قوي لكن التزامه السلوكي أضعف، وقد يكون يظهر على سلوكه الالتزام، ولكنه يفتقر للالتزام الفكري.


من هنا، فلطالما كان بيننا أفراد (تظهر) عندهم حالة الالتزام السلوكي بشكل أكبر، وبيننا أفراد (تظهر) عندهم حالة الالتزام السلوكي بشكل أقل، وفي اعتقادي فإن مواقع التواصل الاجتماعي كشفت عمق الالتزام الفكري أوضحالته عند بعضهم نتيجة الاطلاع والنقاش حول مجموعة كبيرة من النظم الفكرية والعقائدية ثم التأثر به والدفاع في مقابلها عن المنظومة الفكرية للفرد نفسه أو مهاجمته لمنظومته لصالح الأخرى.


ولأن مجتمعنا هو أحد المجتمعات الإنسانية التي دُرست سلوكياتها وصار متوقعا أحيانا ردات الفعل على ظواهر معينة قد تواجهها، فإن ردة فعل مجتمعنا تجاه الأفكار والسلوكيات الشاذة الدخيلة عليه هي المقاومة مثله مثل أي مجتمع آخر بغض النظر عن منظومته التي يتبناها. وعليه، فقد كان مجتمعنا يملك قدرة على الردع الاجتماعي رفضا لأي هجوم أو أي تغيير يمس ثوابت منظومته القيمية وقناعاتها بدءًا من الأمور الشكلية حتى أكثر الأمور عمقا، وتحول الرفض الاجتماعي على أرض الواقع إلي رفض ثقافي يعبر عنه في مواقع التواصل الاجتماعي.


في السنوات القليلة الماضية، بدأ الحديث وربما الشعور بوجود بعض الانحرافات وملامسة بعض السلوكيات وانتشار بعض المتبنَّيات الفكرية التي تخالف تماما ما نحمله من عقيدة، واحتدم الصراع بين المجتمع عموما ومرتكبي تلك السلوكيات والأفكار أو مروجيها أو متبنيها؛ خصوصا عبر مواقع التواصل، وأكثر ما واجهه المجتمع هو الدعوة من الطرف المقابل بالتحضر واحترام التعدد وقبول مبدأ الحرية الشخصية وتبني فكرة أصالة الفرد التي لطالما روجت لها مذاهب فكرية وأصّلتها حكومات وأنظمة سياسية، كما تم التشكيك ببديهيات إنسانية من قبيل الهوية ومحاولة تحطيم كلما يميز الفرد أو المجتمع (العولمة) ليكون العالم كله عبارة عن (مختلفين متعايشين) بحسب الادعاء والدعوى.


لذلك، فعناوين الشذوذ الجنسي، والمساواة بين الجنسين، وحرية السفور، بل حتى مقاومة الكيانات المحتلة والتنظيمات المعتدية أصبحت كلها عبارة عن وجهة نظر!


أن تضع سيدة مسلمة محجبة صورتها عبر مواقع التواصل معلنة نزعها للحجاب، يجب أن يكون - بحسب الطرف المقابل  - حرية شخصية تُحتَرم وتُشجَع، بل ويُشار إلى صاحبها بالبنان؛ فهو شجاع إلى الحد الذي خرج فيه على إجماع مجتمعه.


أن يضع رجل وصلة رقص تخصه مسدلا شعره على كتفيه وملونا وجهه وخصلاته ومطلقا على نفسه اسم أنثى، فذلك حرية شخصية وتجاوز للهويات الجندرية التي ابتدعتها المجتمعات ومساواة بين الذكر والأنثى.


أن يُسبَّ الله ونبيه وأوصياؤه وأن يشكك في عصمتهم وخطهم ومنهجهم وأن يتبجح أحدهم بالإلحاد ليس سوى تفكير خارجَ الصندوقِ وخروجٍ عن القطيع، وأنّ محاولة الرد على تشكيكاته فحسب هي ضرب من ضروب التنمر والقمع الاجتماعي لمجتمعنا المتخلف.


واليوم، مع موجة التطبيع وُضعت تسجيلات وصور لشخصيات معروفة وغير معروفة تصفق لسياسة التطبيع مع كيان غاصب، وفي مقابل ذلك رأينا حملات اجتماعية سياسية عقائدية أهلية تدعو لمقاطعة هذه الشخصيات ورفضها وقطع الطريق على إنجاح سياسة التطبيع عبر إسقاط مرتكبها اجتماعيا؛ بينما يرتفع صوت ذات البروباغندا السابقة؛ فالتطبيع مجرد وجهة نظر اقبلها أو ارفضها، لكن ليس من حقك أن تقاطع أو تسفه مروجها، فأنت بهذا تمارس التنمر والقمع ضده، بل لا بأس أن تستضيفه عبر منصات النقاش والتفاعل من باب الشفافية والديمقراطية والتعايش.


ارفض رأيه ثم قدم له دعوةً على مأدبة غداء أو عشاء، وإياك إياك أن تقاطع تجارته، فما ذنب عشيرته؟!

بعد قليل سنجد أن هناك من يمدح شجاعة هؤلاء الذين خرجوا من القطيع وفكروا خارجَ الصندوقِ وقدموا مجتمعهم (الفرد) على أصحاب قضية خاسرة وهم المعنيون بحلها، فما لنا والسلاطين؟!


أقول لأولئك الذين روجوا يوما لفكرة الحرية الشخصية وحرية التعبير المطلقة وصفقوا لمن نزعت حجابها أو تزوجت صديقتها أو جاهرت بإلحادها ثم صاروا ينادون بمقاطعة مروجي التطبيع: إنَّ كيلَكم مغشوشٌ.


أقول لأولئك الذين روجوا ولا زالوا يروجون للحريات المطلقة وميوعة القيم وتفكيك تمايز المجتمعات وإسقاط كل الهويات وأصالة الفرد: لَم يكُن غريبًا عليكُم أنْ تُدافِعوا عَن مُروِّجي التَّطبيع وان لم تعلنوا صراحة أنَّكم مَعه، أنتُم الفئةُ التي تُراهن عليكُم إسرائيلُ ومَن خلفَها، أنتُم الفئةُ التي بَذلَت القُوى الإقليميّة والمحلّية كلَّ ما بذلتْه لإيجاِدكم بينَنا، وأسألُ اللهَ أنْ تَكونوا مُجرَّد شَواذّ، تَنتهونَ اليومَ مع انكشافِكم.


قال تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...