ابحث في مدونتي

الاثنين، 16 أكتوبر 2017

حين كنا ننتمي للحسين "ع"

ها قد عادت أيام عاشوراء، وها قد عادت مواضيع الجدل ذاتها، ولا أعرف هل أكون مجحفةً حين أقول أن الأمور -غالبًا- لا تتعدى دائرة الجدل!
في العام الماضي أُثير كثيرا موضوع تواجد النساء في محيط مواكب العزاء الرجالية بغرض المشاهدة، لتعاد مشاحنات الموضوع مجددا هذا العام وقبل أن تبدأ مراسم أيام عاشوراء المهيبة، لكني أجد أن العنوان أعمّ من “تواجد النساء في مواكب العزاء الرجالية” إنه عنوان إقامة شعائر نؤمن أنها من تقوى القلوب، إنها الحفاظ على قدسية وروحية وقيمية تلك الشعائر انعكاسا لمبدئية وقدسية صاحبها.
كان الشعار “حسينيون” يختصر المسافة بين معنى إحياء ذكر الحسين عليه السلام وكيفية وروح إحيائه، وإن احتوى ذلك الإحياء على بعض المظاهر التي كان لا بد من تهذيبها وتشذيبها بل وإيقاف بعضها وابتكار بعضها، لكن كان معنى أن نكون “حسينيون” هو أن نتمثّل قيم وسجايا وأخلاق الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه سلام الله عليهم جميعا والتي تفتّقت في كربلاء، كان معناها أننا من يريد الانتماء لخطه وفكره ونهجه، وكانت أيام عاشوراء هي أيام استنهاضٍ وتأكيدٍ على قيم مارسها الإمام الحسين ومن معه مقابل قيم رفضها برفضه ليزيد ومعسكره، كان الهدف الأساسي من إحياء واقعة الطف وشخوصها بحزنها وألمها هو أن نعرف ماذا تحتوي تلك الواقعة من دروس أخلاقية وسلوكية تمس صلب عقيدة وأخلاقية الإنسان الموالي لفكر محمّدٍ وآل محمد عليهم السلام، ولذلك فلطالما حتم الواجب أن يتم نقد الكثير من الممارسات والسلوكيات التي تحصل أثناء جو الإحياء وأحيانا باسم الشعائر والتقديس والإبكاء من أجل المحافظة على الهدف المرجو من إقامتها عبر عملية تقويم تنتج عن عملية تقييم واعية.
أتذكر جيدا حين كنت طفلة، أن كل ظلٍّ على حائط مأتم كان مهيئا ليعتبره البعض “معجزة عاشورائية”، وأن الكثير مما صار اليوم مسلّمًا به علميا، كان في سابق الأيام شيئًا مرتبطًا بالإعجاز المحمدي، لم يكن ذلك إلا نتاج بساطة الناس وقلة العلم مما كان يؤثر سلبا على هدف إحياء عاشوراء محولا إياها لأيام تجاذبات رؤى وتخيلات تبعد الناس عن الإحياء الواقعي لتلك الفاجعة.
ليختلف الأمر كثيرا هذه الأيام، حتى بات الخطيب الذي لا يحكي العقائد والواقعة إلا عبر رؤيا شاهدها في المنام مرفوض عند من يحرص على النهل من علم وقيم مجالس الإمام الحسين “ع”، ولا زلنا نحتاج لشيءٍ من التهذيب والتشذيب إما لأساليب الإحياء العاشورائي أو للمادة المقدمة فيه وكذلك لا زلنا بحاجة لتعديل وتقويم الكثير من التجاوزات التي تصاحب الكثير من برامج ومراكز الإحياء كحالة طبيعية تحتاج ليقظة دائمة، هذا فضلا عن مواجهة الكثير من الأباطيل التي تُلبّس بها شعائر الإمام الحسين عليه السلام مما نبتلى به كل مدة من بعض الشّواذ.
هل من المبالغة أن نقول أن قلة العلم والوعي في السابق كاد أن يخطف جمال عاشوراء منا وكاد أن يفوت علينا فرصة مركزية استثنائية تمكننا من عيش عشرة أيام أو يزيد بأسلوب نكون فيه مهيئون تماما للتفرغ من أجل هذا الإحياء فحسب؟
ربما يحوي ذلك شيئًا من المبالغة..
والدليل أن عاشوراء الحسين لا زالت تحيينا سنويا ولا زالت تتسع رقعتها كلّ عام ولا زالت راية تحمل اسم كربلاء بعنوان الانتصار على الظلم والجبروت خفاقة، ولعل سلسلة النقد التي يتعرض لها الكثير ممن أخفق في استثمار مجلس الحسين ليطعّم المجتمع بفكر عميق دافع للبناء والتطوير والخلود وإن كان كثيره أحيانا يتجه لهدم وجود المنبر باعتباره أداة ووسيلة رجعية لم تعد قادرة على التغيير، وهو من النقد الذي أثق أنه سيسقط أمام النقد الواعي الذي يؤمن بالحسين عليه السلام منبرًا وإحياءً وثقافةً تقوم على أمل إحياء قيمه.
إلا أن تحولا أراه يكبر مؤخرا وأظن أن مواجهته وتهذيبه أمر في غاية الأهمية، أمر لا يقل أهمية عن نزع الجهل والاكتفاء بالصياح والأحلام من برامج ومواد الإحياء، إنه تحول البعض من النداء بشعار “حسينيون” إلى النداء بشعار “الحسين للجميع”.
“الحسين للجميع”
أثق أنه شعارٌ راقٍ أساسه الإيمان بأن الإمام الحسين كمثل أبيه وأخيه ووالدته وجدّه وبنيه عليهم الصلاة والسلام، وجود إنساني استثنائي يستحق بجدارة أن يكون -بل هو هو- النموذج الحقيقي للوجود الإنساني الذي يريده الله للإنسان، إنهم الكمال الذي يسعى إليه أي إنسان يريد لنفسه أن تعلوا للكمالات الإنسانية عبر بوابة عقيدة سليمة أسست لمنظومة قيم وسلوكيات يطمح لها كل بشري سوي، وتطمح لها كل المجتمعات الحالمة بأن تكون مجتمعات منتجة على كل الأصعدة، سواء آمنت بتلك العقيدة أو اكتفت بمنظومة القيم، إلا أن رفعه عند كل نقد لمظاهر وسلوكيات وتجاوزات تمارس ضمن بعض الشعائر لا يختلف عن مطالبة الكثيرين بالاحتفاظ بالجهل والأحلام والبكاء الفارغ كأسس لإحياء عاشوراء الحسين “ع”.

بناءً على هذا الشعار، صار من الواجب أن يُقبل كل سلوك لائق أو غير لائق، شاذٍّ أو مقبولٍ أثناء التواجد ضمن دائرة إحياء عاشوراء على اعتبار أن الحسين رسالة للجميع وهو كذلك، وعلى اعتبار أن حرية الجميع مكفولة فالحسين لهم كما هو لنا، وكأن هناك حالة من محاولة لـ”وهب” الحسين عليه السلام ضمن هذا الشعار، فصار من حق الجميع أن يهبه للجميع وخرجنا من حالة أننا حسينيون ننتمي إليه، إلى حسين ينتمي للكل! وتم تحويل كربلاء لدى كثيرين من حالة قيمية وقضية مبدئية لفن وذوق وسحر، وهذا يعني أن نقبل الجميع بما هو عليه وإن كان يعني ذلك المساس بقدسية الرسالة الحسينية، فالأهم أن يبدَع الحسين رسما وشعرا ونثرا لترسم فسيفساء كربلاء بطريقة حضارية راقية، لتكون كربلاء مجرد أسطورة شعبية وأهزوجة يُدعى الجميع لإحيائها.
وتحولت تلك المرأة الغير محجبة والتي تعودت وتعودنا في سابق الزمان، أن تحضر إحياء عاشوراء متشحة بالسواد والحشمة وعيًا بالحسين وما يمثله من رسالة سماوية طاهرة، إلى مستضعفة تُسن الأقلام للدفاع عن حقها في “التبرج والسفور” بمحاذاة مواكب العزاء بل في منتصفها أحيانا فالحسين للمحجبة والسافرة على حد سواء!!
وصارت مجرد الدعوة للشباب عامة ذكورا وإناثا بالحفاظ على “هيبة” إحياء واقعة الطف، تدخلات سافرة من رجعيين يظنون أن الحسين “ع” ملكًا لهم، فما الضير أن يحضر أحدهم مجلسا حسينيا وأسفل ظهره يبرز من الخلف بينما يغطي عينيه التي تشخ بالدموع؟! وماذا يعني أن يسعى تلك الليلة وراء فتاة غمزت له أثناء مرور موكب شارك فيه بينما يواسي الزهراء “ع” لتزيد حماسته في اللطم؟!
منطق لا أعرف حقًّا إن كان من يتمنطّق به قد حكّمَ عقله فعلًا أم يحاول تبرير ما يريد أن يمارسه فحسب!
إن كان الحسين للجميع بمعنى أن يُبدِعه كلٌ كيفما يشاء، فمن يجد الحسين مجرد حلم ومن يجد إحياء ذكراه ضمن مواكب باسم “كلاب رقية” وغيرها مما أُبتليت به بعض المجتمعات مؤخرا، فهم يمارسون حصتهم من الحسين ولا يحق لمنتقد أن ينتقدهم أيضا!
وُفِّقت مدة لحضور مجالس حسينية في عاشوراء بأحد المجتمعات العربية، مجتمع لطالما قُورِنَّا به ولطالما طُولبنا أن نتشبّه به، ولعمري ما وجدت هناك إحياءً ولا عَبرة ولا عِبرة، فالحسين عليه السلام مجرد عادة تجمع سنوية يصاحبها الكثير من التجاوزات التي فُرضت على مجالس الإحياء تلك بسبب طبيعة المجتمع المنفتحة جدا، والذي علينا اليوم أن نعتبره مسطرة قياس ونتمثّل به!!
منحنا الله نعمة في مجتمعنا، هي نعمة الوعي بأهمية إحياء عاشوراء، وتنوع وسائل الإحياء تلك بين مجلس حسيني ومواكب لطم وفعاليات رسم وتشابيه ومضيفات وتمثيليات وأهازيج وأمسيات شعر، لا زلنا ندرك أن الحسين عليه اسلام قضية إيمانية إنسانية تحكي وحشية الظلم وجمال الإيمان والإخلاص والإيثار، لذلك لا زالت الدمعة الحزينة الواعية الإنسانية تصاحب فعالياتنا متّشحة بالخشوع والجلال والاحتشام ولا نحتاج لأكثر من محافظة على بعض الجنبات وتهذيب بعض الجنبات وتفكير عميق بأهداف إحيائنا قبل أن نرفع الصوت من حيث ندري أو لا ندري لنحوّل القضية الكربلائية لمهرجان احتفالي بهيج من حيث أثق أن لا أحد يريد.
عظّم الله أجوركم وأجورنا..
وأسأله التوفيق لنكون خير من يحيي ذكر محمد وآل محمد عليهم السلام كدروس نعيها ونتمثل بها ونحيا بين جمال قيمها.





نشر بتاريخ
16/10/2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...