ابحث في مدونتي

الثلاثاء، 17 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (30)




 


منذ ساعات الفجر الأولى، ومع انتهاء موعد التفتيش اليومي على السجينات، والذي لم تعرف عنه السيدة شيخة مسبقا، تم استدعائها لتعود مرة أخرى لغرفة التحقيق، بمجرد أن سمعت اسمها عبر مكبر الصوت، ارتعدت فرائصها وخارت قواها، طلبت أن تدخل لدورة المياه، فلقد أكسبتها تجربتها بالأمس خبرة، تعرف أنهم لن يسمحوا لها بالدخول لدورة المياه حتى تنتهي ساعات التحقيق الطويلة والمريرة، هذه المرة قررت السيدة شيخة ان تستعد لهم جيدا، فلبست بعض الملابس التي سمحت لها السجينات باستعارتها منهم، مكونة طبقة قطنية على جسدها لعلها تخفف ألم اللكمات، كما تعمدت أن تلبس ملابس ذات أكمام طويلة لذات الهدف، ورغم الخوف الذي احاط بها الا أنها تبسمت لنفسها وهي تقول "كيف أحميك ياوجهي؟!".


 

ركبت السيدة شيخة سيارة خاصة لنقلها، وكانت الشرطية المرافقة لها هذه المرة مبتسمة، وهو ما أثار استغرابها، فمنذ دخلت ذلك المبنى لم ترى الا وجوها مكفهره، ولم تسمع سوى اصوات النشاز، توجهت لها الشرطية بالسؤال :

- هل انت بخير سيدتي؟

متفاجئة أجابتها:

- الحمدلله على كل حال ..

فهمست لها الشرطية:

- تحدثت مع اهلك؟

- البارحة .. لدقائق محدودة

- ترغبين بمعاودة الاتصال بهم؟

- هل يمكنني ذلك؟

بابتسامة أجابتها :

- ان كنت قادرة على كتم الأمر .. فنعم

- أرجو ذلك

فتحت الشرطية هاتفا كان بحوزتها، ناولته العمة وطلبت منها أن تتكلم بهدوء وأن تنهي المكالمة قبل موعد الوصول بفترة، اتصلت السيدة شيخة بزوجها، وأعادت عليه السؤال حول الشابين، فأخبرها أن حسن بخير لكن فضل اعتقل، كانت السيدة شيخة متأكدة من ذلك، سألها زوجها عن أقوالها فأجابته أنها لم تتمكن من الاجابة، وبأنهم يريدون منها أن تعترف بقضايا كبيرة :

- حسنا يا شيخة .. اسمعيني جيدا .. بما أن حسن فر هاربا فأنكري تماما معرفتك به .. أما فضل فأخبريهم أنه زوج ابنة أخيك وأنك لا تعلمين بكونه مطارد .. كوني قوية واصري على أقوالك مهما حصل .. خصوصا أمام وكيل النيابة حين يستدعيك ..

- ان شاء الله .. لكن أخشى أن تصاب شريفة بمكروه ..

- لا تخشي ذلك .. هي تنتظر اتصال فضل لتخبره ذات الكلام .. لعل الأمور تجري معك على خير ما يرام ..

- لا تخبر أحدا باتصالي .. انه غير رسمي

- انتبهي لنفسك عزيزتي .. أفتقدك جدا .. وأثق أنك قوية وصابرة .. وستخرجين بحول الله



أنهت السيدة شيخة مكالمتها، وشكرت الشرطية كثيرا، حتى أوشكت على تقبيلها، لقد أشعرها الاتصال بشئ من الثقة وهدوء النفس.  وكادت أن تطير فرحا وهي تسمع خبر نجاة حسن، ورغم انها صارت واثقة أن الصراخ الذي سمعته كان لفضل، الا أنها شعرت بالامتنان لبارئها.  قاطعت الشرطية أفكارها حين قالت بهدوء:

- لقد وصلنا ...

لم تشعر شيخة بالمرارة والخوف الذي شعرت به صباحا، لقد صارت تعرف ما يجب عليها فعله، امتلئ قلبها أملا بالخروج من هذا المكان القذر سالمة، وبينما تهم بالنزول، ربتت الشرطية على كتفها :

- كان الله في عونك سيدتي

تبسمت شيخة "سبحان الله .. حتى بعمق القذارة قد تلتقي بشيء من الطهارة" :

- لن أنسى مواساتك ما حييت .. جبر الله خاطرك كما جبرتي خاطري.



يقول الامام علي عليه السلام (انك إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْجُورٌ وَ إِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْزُورٌ) لقد قررت شيخة أن تصبر على قدرها، وتكتسب عن صبرها أجرا.

دخلت بكل ثقة لذلك المبنى، لتستلمها شرطية قاسية من بعد تلك الانسانة التي أرسلها الله لها، قيدت يديها وعصبت عينيها مجددا، لتدخل ذات الغرفة، وتستنشق ذات الروائح العفنة المختلطة برائحة أنفاسهم الكريهة، وسجائرهم السامة :

- أعتقد أنك جئت اليوم لتخبرينا كل شيء .. أليس كذلك؟

- ماذا تريدون أن أخبركم .. أن كنت تقصد حديثكم بالأمس .. فلا اعرف عنه شيئا

سمعت صوت كرسي يتحرك، وخطوات تقترب منها، ثم سمعت صوت سحب كرسي قريب، شخص قريب منها طلب منها أن تجلس.  اعتقدت شيخة أن تحقيق اليوم قد يكون اخف وطأة من الأمس، انحنت وبكل ثقلها اتخذت وضعية الجلوس، بعد أن استشعرت بيديها وجود كرسي قريب، لكنها وبمجرد أن هوت بجسدها على ذلك الكرسي، سحبه المحقق بعيدا لتسقط على الأرض بكل قوة، وهي تتأوه مصابة بحالة من الذهول، ضجت الغرفة بضحكاتهم، بصعوبة وقفت السيدة شيخة مجددا، حبست صرخة كانت قد دوَّت بقلبها، واختارت الصمت تعبيرا عن ألمها، لم يتأذَ متن هذه السيدة، لكنها ومنذ الأمس صارت تكتشف حجم وحشية لطالما سمعت وقرأت عنها، شعور الإهانة الذي أرادوا أن يقرأوه ويشعروا به في وجهها، خبأته بقلبها الكبير "لن أسمح لكم بالتفرج على كبريائي وهو يهان .. سأقف هنا شامخة رغما عنكم".

ساعات من الصراخ والانتظار والوقوف، انهكت السيدة كثيرا، حتى لم تعد قادرة على التحمل، رغم أن زوجها طلب منها أن تخبرهم بحقيقة العلاقة الأسرية بينها وبين فضل، الا أنها تخشى على شريفة من فهد كثيرا، لقد ظنت أن بامكانها أن تتحمل أذاهم ووقاحتهم، لكنها تظل واقفة لساعات، لتتلقى الصفعات والاهانات، فيشعرون بالتعب هم ويستريحون هم، بل وبعضهم يستأذن لتأدية الصلاة! حين سمعت شيخة بهذا الطلب كادت أن تسقط أرضا من فرط الضحك، لقد أذهلت المحققين بضحكها، فسألها أحدهم:

- ما رأيك أن نضحك معا؟ أخبرينا بالنكتة التي قالها لك أحد أئمتك فأضحكتك هكذا!

- لا شيء .. لكن يا سادة تستريحون وتشربون الماء وتصلون أيضا .. وسيدة تقف هنا بينكم؟ ألا تخجلون؟؟

- يبدو أنك اعتدت علينا كثيرا .. حتى صرت تتجرأين بالضحك أمامنا ...

صار الجميع يصرخ عند أذنها تماما، حتى شعرت أن طبلة أذنها ستثقب، فوقعت أرضا من صراخهم، وصاروا يضحكون مجددا، أحدهم قال لها :

- سأجعلك تضحكين الآن كثيرا ...

أمر صاحبه بسحبها، فاستشاطت غضبا حين مد يده لها :

- حسنا .. ايتها الشرطية اسحبيها أنت .. هؤلاء قوم لا يكترثون بمن يهينهم بل بجنسه  !! عجبي



 
 
صاروا ينتقلون بها ضمن ممرات تشعر بضيقها، كانت تقترب من صوت صراخ أحدهم شيئا فشيئا، وكأنها تعرف ذلك الصوت "أتراه فضل؟؟!!" صارت تحاول أن تشغل سمعها عن صوته، لن تتحمل هذه السيدة الاستماع لعذابات فضل، فجأة توقفوا عند باب فُتح، أدخلت للداخل وصفق الباب من خلفها، ثم نزعت الشرطية القماش عن عينيها، كان فضل أمامها مباشرة، الدماء تغطي وجهه، والانهاك واضح على جسده، بألم نادته:

- فضل

فتح عينيه لها، لم يتوقع أن تصل دناءتهم لحد احضار العمة اليه، هنا وهو بهذه الحالة!! نظر اليها بشموخ مبتسما لها، فصفعه أحد الواقفين بجانبه:

- كم مرة أخبرتك أني لا أريد رؤية أسنانك .. هل تريد أن أكسرهم لك

صارت السيدة شيخة تبكي، فهز فضل رأسه لها وكأنه يطلب منها أن تتوقف عن البكاء، فهو لا يريد بأن يشعر هؤلاء المرضى بالسعادة، وهم ينظرون لانكسار أحدهم، بخبث وابتسامة ماكرة حدثها أحدهم:

- ستعترفين أم نقتل هذا الوغد أمامك؟؟

صرخ فضل بوجوههم :

- انها قريبتي .. أنا زوج ابنة أخيها .. ولم تكن تعرف أن حسن معي .. اتركوها .. لا شأن لها بكل ما يحصل

صرخوا بوجه فضل، كانوا يريدون اسكاته، أحاطوا به من كل جانب، وانهالوا عليه بالركلات واللكمات، بدأت السيدة شيخة بالصراخ "اتركوه اتركوه ايها الجبناء .. نحن أقوى منكم أيها العصابة" أعادوا القماش على عينيها، ورجعوا بها لتلك الغرفة، وبدأ أحدهم بطرح الأسئلة مجددا:

- تعرفين الشاب حسن جواد .. أليس كذلك؟

- لا أعرفه .

- كاذبة .. أتعتقدين أننا نحتاج منك لتخبرينا بما تعرفين؟؟؟ نحن من سيخبرك كيف تقضين يومك ومتى تشربين مائك ومتى تستحمين.. حين أقول لك أنك تعرفين حسن فإجابتك ستكون نعم .. سأعيد السؤال مجددا:

- هل تعرفين حسن جواد؟؟

- الحقيقة أني لا أعرفه .. لكنك تريد أن أقول نعم .. حسنا ... نعم


لم يبق بصدورهم الضيقة صبرا على هذه المرأة، لقد فتشوا هاتفها وجهازها المحمول، فكانا خاليين تماما من أي نشاط أو تواصل مشبوه، هم يحتاجون فقط أن تقر بمعرفة حسن، وها هم قد انتزعوا اعترافها، فتقرر نقلها للنيابة العامة.

أدخلت لغرفة صغيرة، يجلس بها وكيل النيابة وكاتب، أمامهما طاولة وكرسيان، صار يتفحص مجموعة أوراق، ويسألها عن سبب اعتقالها، وان كانت تعرف تهمها، ومن أين وكيف اعتقلت؟ ولماذا؟ ثم صار يكرر السؤال ذاته بأربعة أو خمسة أشكال، لم تعد تتحمل فتجرأت وخاطبته:

- لقد ضربوني لأخبرك أني اعرف شخصا اسمه حسن جواد .. والحقيقة أني لا أعرف أحدا بهذا الاسم

- اذا كيف كان يسكن عندك بشقتك؟

- يسكنها قريبي .. لا علم لي بوجوده فيها!



لم يكن هذا الرجل بأفضل حال من أولئك، لقد كان يصرخ بوجهها، ويتهمها بالكذب واحيانا يهددها، مرت ساعات قبل أن يطرق شرطي باب الغرفة، لتطل من الباب فتاة صغيرة في السن، ابتسمت بوجه العمة ثم طلبت من وكيل النيابة حضور التحقيق لكونها محامية السيدة شيخة، نظر الوكيل للمحامية شزرا :

- كدنا ننتهي

- لا بأس سيدي .. أرجوا أن تسمح لي بالدخول

أومأ لها بالدخول، لاحظت احمرارا أسفل عين موكلتها فسألتها:

- شيخة .. ما الذي أراه أسفل عينيك؟

- لقد لكموني كثيرا .. ربما هذا أثر اللكمات

نظرت المحامية اتجاه وكيل النيابة، وطلبت منه تسجيل ما قالته السيدة شيخة، فتبسم باستهزاء ثم قال:

- هل تريدين أن أخرجك من هنا؟

- انه واجبي .. وتلك وظيفتي

- اجلسي بهدوء ....

- سيدي .. مجددا أطلب تسجيل أقوال السيدة شيخة بخصوص الأثر الواضح أسفل عينيها

توجه بنظره للسيدة شيخة :

- تهمتك إيواء مطلوبين هما فضل حسين جابر وحسن جواد .. ما هي اقوالك تجاه هذه التهمة؟

- غير صحيح ..

طلب منها توقيع الأوراق، كانت تحوي أقوالها وأسئلتهم، وقعت وخرجت لتقف قليلا مع محاميتها، أخبرتها بشئ مما لاقته في غرف التحقيق، ربتت المحامية على كتفها:

- لا بأس عزيزتي .. سنقوم بكل الاجراءات اللازمة ونرجوا أن تؤول الأمور الى خير

- لا أريد العودة لغرف التحقيق .. لا أريد ذلك

أشفقت المحامية على العمة شيخة :

- ان شاء الله لن تعودي ..

انتظرت المحامية قرار وكيل النيابة، كانت تأمل أن يفرج عن السيدة شيخة، لكن كيف نبحث عن عدل بعمق الظلم، والآلات الجالسة خلف مكاتب الجبابرة، تسلب أمان الشعوب لتهديها للملوك، مقابل بيت وسيارة ونفوذ؟! أُوقفت السيدة شيخة أسبوعا على ذمة التحقيق، وأعيدت لسجن التوقيف، صابرة محتسبة، لم تكن تفكر سوى بالانسان الذي يقدَم قربانا على مذابح الأصنام!!

لم تكن قادرة على نسيان دماء فضل، لكنها كلما تذكرت ابتسامته السريعة، ودفاعه المستميت عنها، شعرت بالفخر يملأ أوصال روحها "هنيئا لكِ يا شريفة هذا الانسان .. عسى ان يلم الله شملكما قريبا"








كانت الليلة التي رأت فيها السيدة شيخة فضل في غرفة التحقيق، هي الأخيرة له هناك، لقد نقل الى سجن التوقيف، وقام بالاتصال بأهله وزوجته. اتصل بوالدته التي أُحرق قلبها عليه كثيرا:

- كيف حالك يا أماه؟

- مادمت قد سمعت صوتك يا ولدي .. فأنا بأفضل حال

- أنا بخير .. أقوى من ذي قبل .. مرتاح جدا جدا يا والدتي .. لم أعد أخشى اقتحاما ولا مداهمة .. لطالما سألت الله أن يختار لي السجن ان كان خيرا لي .. وهكذا فعل وله المنَة

- أسأل الله أن يتم ايمانك ويكمل نعمته عليك

- أمي .. أريد أن أخبرك أمرا ..

- تفضل يا ولدي .. اطلب ما شئت .. اعطيك عيناي ..

- أدام الله لنا نور عينيك .. في الفترة السابقة .. أقدمت على أمر لطالما كنت تدعين لي به

- الحمدلله .. ما دمت دعوت لك به فهو خير .. ما هو يا ولدي؟

- لقد عقدت زواجي على فتاة ستحبينها .. انها ابنة شقيقة الحاج علي ..

- شريفة ؟؟

- كيف عرفت يا أم فضل؟؟ حتى هذه لم تفتك؟؟!!

- أو تظن أني أغيب عن نظراتك وسكناتك .. لقد رأيت عيناكما في جلساتنا القليلة بمنزل الحاج علي

لم يتمكن فضل من منع نفسه من الضحك، لطالما علمت هذه الأم بما في نفس ولدها، حتى بدون أن يتكلم، انه رابط الهي معجز، ذلك الذي يربط الأم بفلذات أكبادها، قد تموت الأم ألما دون أن يشعر بها أبنائها حين تختار الصمت، لكن شكة الابرة حين تصيب ابنا لها تنغرس أولا بقلبها، لتشعر بألمه قبل أن يبدأ بجسده!

- أمي .. لا زال الأمر غير معلن .. فلا تفصحي عنه ..

لقد صار اليوم يوم عرس فضل عند والدته، إذ اختارت أفضل أنواع الحلوى، ثم ذهبت للصائغ لتشتري خاتما ذهبيا لطالما حلمت بإهدائه لزوجة فضل. اتصلت بالحاج علي، طالبة منه الإذن بزيارته على أن يدعوا شريفة أثناء حضورها، رحب الحاج علي بوالدة فضل، فضل الشاب الذي لم يعرفه الا مؤخرا لكنه صار قريبا اليه، كأحد أبنائه وأقرب.

حضرت السيدة أم فضل لمنزل الحاج علي، كانت تحمل باقة زهور كبيرة، وزَّعت بين ورودها الحلوى، وقد تداخلت فيها ألوان الأبيض والأحمر والذهبي بتناغم جميل، تعتلي الباقة علبة مفتوحة بداخلها ذلك الخاتم الذهبي، وبطاقة كتب عليها (أنت حلم لطالما تمنيت أن أستيقظ وقد غدى واقعا .. أم فضل) .

كانت شريفة في غاية التوتر، فقد أخبرها الحاج علي أنها طلبت زيارة الدار بحضورها، ذهبت لوالدتها وهي في غاية السعادة والخجل والتوتر، وطلبت منها أن تكون معها في هذا الموعد، لم تكن تلك مجرد زيارة بالنسبة لشريفة وكذلك بالنسبة لأم فضل، انها أربطة نُسجَّت بالدم وشاء الله لها أن تتحد، عملية في غاية الدقة والروعة والأهمية.

وصلت شريفة ووالدتها لمنزل الحاج علي، واختبأت في غرفة البنات، بينما جلست أمها مع الحاج علي وزوجته لاستقبال أم فضل، ومعهم ابنتهم زهراء التي عادت مؤخرا لمنزل والدها، وأسكنت أهل زوجها في شقتها تلك تفاديا لاعتداءات المشوهة أنفسهم.

في بداية اللقاء، احتضنت أم فضل أم فهد وهما تمتلآن سعادة، فتلك المرة الأولى التي تلتقي فيها السيدتين، جلس الجميع لتبادل الحديث، حتى فرغ صبر أم فضل، فطلبت حضور عروس ابنها، ذهبت زهراء للغرفة لتطلب من شريفة الخروج لعمتها، بإبتسامة ماكرة، غمزت زهراء لشريفة:

- يا عروس .. عمتك تطلبك

فصارت شريفة تقفز في مكانها:

- أشعر بخجل شديد .. ألم يذهب خالي؟

- بلى لقد غادر مع زوج العمة ..

- الحمدلله ..

- الحمدلله على ذهابه!! حسنا سأخبره حين يعود أن غيابك نعمة بالنسبة لشريفة وتشكر الله عليها

بذات القفزات الخجلة، ضحكت شريفة :

- لا أريد أن يراني جالسة مع عمتي ... أشعر بالخجل ..

- اذا هيا .. عمتك تنتظرك ..

دخلت شريفة لصالة المنزل، تكاد تتعثر من شدة الخجل، وتكاد تطير من شدة السعادة، لقد استبشرت شريفة خيرا بمبادرة والدة فضل، أشعرتها هذه الأم الصادقة أنها ستكون ابنة عزيزة ببيتها. لفضل شقيقات وأشقاء كثر رغم صغر سنهم، الا أنها تتوق لتكون واحدة من تلك العائلة، فقد ضجرت وهي تعيش عمرها وحيدة بلا أشقاء وشقيقات، إلا شقيق واحد في هذه اللحظة السعيدة بالذات، لا تريد أن تعكر صفو روحها بذكره. بمجرد أن وصلت شريفة عند عمتها، هوَّت تقبل رأسها، فوقفت أم فضل على رجليها واحتضنت شريفة، حتى تحادرت دموع عينيها، وصارت تزغرد فرحا، لم تكن تلك الأم بالنسبة لشريفة جسدا لاقته بجسد، بل كانت قلبا كبيرا باتساع مجرة، وستكون شريفة سعيدة جدا لو ابتلعها ذلك القلب ابتلاعا.
بينما كانت الجلسة العائلية قائمة، رن هاتف أم فضل، انه فضل يتصل مجددا:

- اهلا حبيبي وقرة عيني .. هل تعرف أين أنا؟؟ توقع .. اذا سأخبرك لكن بطريقتي ..

حملت أم فضل الهاتف ووضعته بيد شريفة، وأشارت لها بأن تتحدث مع فضل، لقد ازداد شعورها بالخجل، لكنها تعرف أن الأمر سيملأ قلب فضل بالسرور :

- أهلا فضل ...

- من؟ شريفة؟؟!!!!! هل ذهبت لمنزلنا؟

- لا بل والدتك من جائتنا زائرة

- كم أحب هذه المرأة .. قبلي رأسها وأخبريها أنني مستعد للموت مقابل تقبيل قدمها

أحيانا لا نحتاج للكثير من الكلمات، لنخبر شخصا عزيزا على قلبنا، بأننا نحبه ونبتغي تحقيق سعادته، كل ما نحتاجه شئ من الصدق والنوايا الصافية، شئ من الايثار والتضحية، شئ من انكار الذات أمام الآخرين، ليس بالضرورة أن يكون ذلك الانسان قريب أصلا، قد نشعر بالاهتمام تجاهه، ونسعى لرسم ابتسامة على وجهه، لانه انسان .. انسان فحسب، فكيف بمن كان لهم قلبنا مستقرا؟!


ارتمى فضل على مرتبته التي وضعها بالقرب من أسرَّة زملائه، فالسجن مكتظ لا شاغر فيه، الا أن أبوابه المقفلة لا زالت تفتح لسجناء جدد، وكأنه كلما مُلئ منهم صاح "هل من مزيد؟"!!

كانت السعادة تغمر فضل، راحة شديدة تسكن روحه، وكأنه لم يستشعر مثلها منذ سنوات، ارتسمت على شفتيه بسمة "سبحان الله .. رب ضارة نافعة". منذ دخل السجن والأخبار الجيدة تتوالى عليه، فحسن نجح في مغادرة البلاد سالما، وشريفة مع والدته ووالدتها في انسجام أسري جميل، الأمر الوحيد الذي لا زال يقض مضجعه، هو وجود العمة شيخة في السجن، لكن ثمة أمل بعمق قلبه، كان يخبره بصوت رخيم صادق واثق، أن الفرج قريب، قريب جدا.

بينما كان فضل مستلقيا، إذ فتحت الزنزانة وأطل شرطي بوجهه العابس مناديا اسمه:

- فضل حسين جابر

- نعم

- تعال معي ...



استغرب فضل الطلب، ترى ما الذي يحصل؟ ولمَ تم استدعائه؟! للتو عاد من الموت، لا زالت عظام رجليه تخونانه أحيانا، ضحك في قرارة نفسه وهو يقول "ربما سيفرجون عني .. أبعد الذي كان؟؟" نظر إليه الشرطي مستغربا:

- أقول لك تعال معي .. فتضحك؟؟؟
 
 
 
 
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...