ابحث في مدونتي

الثلاثاء، 24 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (35)



 


 
دقت ساعة الصفر، حملت زهراء قرة عينها على ذراعها، جارَّةً من خلفها حقيبة السفر التي ستكون بجانبها في الطائرة، ملأت سيارة شريفة بالحقائب، الكثير من الأشياء ستكون برفقة زهراء في رحلتها، ملابس لزوجها تعينه على برد الشتاء، في البلاد التي ستقيم معه فيها، وكتب طلب منها أن تحضرها معها من أجل أن يعد نفسه للدراسة، ولأشياء أخرى صار يعتقد أن من واجبه أن يكون ملما بها، كتاريخ بلده والكثير من المفاهيم الإسلامية والعالمية التي اكتشف أنه يجهلها، مفاهيم من قبيل "الوعي" و"الثورة" و"المقاومة" بل حتى "الوطن"!


منذ غادر حسن، وعقله مشغول كثيرا، لقد ظنت زهراء أن سفره وابتعاده عن واقع المطاردة والتخفي سيفرّغه لها أكثر، لكنه سرعان ما انشغل بالاستعداد لمرحلة جديدة، لقد غيرت سنوات المطاردة والسجن والتعذيب خارطة حسن العقلية، فصار يولي الأهمية لأمور ما كان يوليها أي اهتمام في السابق، ولا زال تأثير الحاج علي واضحا عليه. اذ صار يسعى لكتابة مقالات تخصصية على غرار ما يكتبه الحاج علي، مقالات صارت تبهر من يقرأها، وتثير التساؤلات بعقل من يتابعها، مقالات صارت تنشر باسمه الحقيقي، حتى أنه كتب مرة عن واقع الانسان المطارد في بلاده! وقد لاقى ذلك المقال انتشارا واسعا بين أقرانه والمهتمين بالشأن الإنساني والسياسي داخل وخارج بلاده.


ارتفع صوت الموظفة عبر مذياع المطار، لتعلن أن هذا النداء هو النداء الأخير للرحلة التي ستحمل زهراء لزوجها، رف قلبها وطربت اذنها وهي تسمع ذلك النداء، لكن بمجرد أن وقع بصرها على والدها ووالدتها وشقيقاتها وشريفة، الذين جاءوا جميعا لتوديعها، شعرت بانقباضه في قلبها، أنزلت من عينها الدموع. احتضنها والدها بقوة، ورفع كفه عند عينيها ليمسح دموعها هامسا بأذنها:

- اقسمي هذه الضمة لنصفين .. احتفظي بأحدهما وأوصلي لحسن الآخر .. أخبريه أنني أشتاقه اشتياق يعقوب الى يوسف .. وكفي عن البكاء لأن ذلك لا يناسبك

تبسمت زهراء لوالدها، ونظرت اليه مليا، وكأنها تريد أن يستقر في بصرها، ولا يبارح عينيها أبدا:

- لا قدرة لي على فراقك .. أنت سندي في الحياة يا أبتي .. فكيف أعيش بلا سند؟

- سنكون عندك في أوقات .. وستزوريننا في أوقات أخرى .. ثم وبقدرة الله سيأتي يوم تعودان فيه برفقة عائلتكما الكبيرة .. لتستقرا مجددا في وطنكما .. لن يطول الأمر يا عزيزتي.


تحلقت الفتيات حول زهراء ومنتظر، ربما تقبلن كلهن فكرة رحيل زهراء، لكن روحهن تعلقت بهذا الطفل الصغير، لقد أكسب المنزل نورا وبراءة وحبا، فصاروا يصحون على وقع بكائه وينامون وصورة بسمته منطبعة بعقولهن وقلوبهن، ليستيقظوا صباحا وهن يتذكرن حلما جميلا كان منتظر بطله، فيتنافسن للفوز ببسمة منه وقبلة.

من الصعب جدا أن نفترق عن البشر الأكثر نقاءً في الحياة، انهم أحباب الله، زينة الحياة الدنيا، وكم على هذه الأرض من أحباب، أُبعدوا عن أحبابهم قسرا. آباء بعيدون خلف القضبان يشتاقون للثم طفل حديث الولادة، كبر بعيدا عنهم. أطفال محرومون من حنان الأم الذي لا يعوضه حنان، يدفعون ثمن صوت أمهاتهم الهادر، الذي قرر متجبر ما أن يحجبه عن العالم!


والدة زهراء كانت الأكثر توجعا، لم تعتد هذه الأم على فراق أي بنت من بناتها، وحين جاء منتظر لم يكن بالنسبة لها حفيد، بل الابن الذي لطالما تمنت انجابه، فكانوا يعلِّمونه مناداتها ب"أماه" بينما ينادي والدته "ماما" إرضاءً للجدة التي تردد دائما أن "أماه" هي الأصل أما "ماما" فهي لأمهات هذا الجيل اللاتي يصعب عليهن تربية طفل. أمسكت كفه الصغيرة التي كان يلمس بها وجه جدته الذي اعتاده، بينما تنظر لعينيه اللتين لا يبعدهما عنها أبدا، الا حين يقبل عليهم الحاج علي، فبين هذين الرجلين حكاية قصيرة المدة، عميقة الأثر.
ستظل هذه الاسرة تحلم يوما ما، بأن يظلها سقف وطن واحد، ككثير كثير من الأسر على هذه الأرض الطاهرة.


للمرة الأخيرة نظرت زهراء لعائلتها، والدها ووالدتها، شريفة وعمتها، شقيقاتها، أرضها ووطنها، وبينما كانت تمسح الدموع من عينيها، كانت تهمس لطفلها "سنعود يا حبيبي .. سنعود بإذن الله .. من ذا الذي يمكنه أن يمنعنا عن أرضنا؟" استدارت وصارت تمشي للأمام، متجهة لموقع الطائرة التي ستحملها بين جناحيها لتلقيها في وطن آخر، لطالما حلمت بأن تكون معه، لم تنظر زهراء للخلف ولن تنظر، لقد قررت أن تنظر دائما للأمام، ستغادره وتعود له دائما وهي تنظر للأمام.


في موعدها المعتاد، توجهت شريفة لعملها، على أن تستأذن بعد ساعتين فقط، بعذر الانشغال بأمر عائلي هام، توجهت بعد ذلك لصالون النساء القريب من منزلها، في قرية زوجها، وهناك صارت تستعد لموعد هام، وفي الوقت المحدد عادت لمنزل زوجها بينما كان ينتظرها عمها وعمتها وشقيقيَّ فضل:

- مستعدة يا شريفة؟

- نعم عمتي ... مستعدة ومتحمسة وخائفة وسعيدة وكل شيء!

ضحك الجميع لروح شريفة التي صارت تسليهم في البيت كثيرا، وتوجهوا لموعد لطالما حلمت أن تكون شريفة احدى المدعوات عليه.




 
وصلوا مبكرا حيث اصطف الجميع في طابور، عند البوابة الأمامية، سلموا بطاقاتهم الشخصية وذكروا عددهم، ليمروا مع أعداد كبيرة من العائلات التي جاءت لذات الغرض، الذي جاءوا اليه، ليصلوا لباب آخر حيث تم تفتيشهم بشكل شخصي ودقيق، ليحيلوهم على غرفة صغيرة ليُطلب منهم مجددا اخراج بطاقاتهم الشخصية، وليتعرضوا مجددا للتفتيش ثم ليسألوهم مجددا عن السبب الذي دعاهم للحضور!!  أصيبت شريفة بالضجر الشديد بينما تمر بكل تلك المراحل من أجل نصف ساعة سيبقونها بالداخل، لا تسمن ولا تغني من جوع! صارت تتأفف بينما تبتسم لها عمتها:

- صبرا يا شريفة .. فان موعدك الجنة

لتضحك شريفة على تعبير عمتها وتسألها:

- أهكذا روتين كل مرة؟

- نعم يا ابنتي .. وما خفي أعظم .. انظري هناك .. هذا الطفل الرضيع يتعرض لكل ما تعرضنا له .. حتى ملابسه وقماطه يا ابنتي يتم الكشف عليها ..

- أهوس يا عمة؟

- بل تنمر .. يريدون كسر أرواحنا بداخلنا.

بينما تتحدث السيدتان، وصلتا لكابينة كان يطل من نافذتها "فضل"، سكتت شريفة عن عمتها فجأة، بينما العمة كانت تواصل حديثها، لم تعد رجلي شريفة تعيناها على المشي، انه فضل بعد كل تلك المدة "أحلم هذا أم خيال؟!" ودت شريفة لو تطلق لرجليها العنان، لتتقدم الصفوف حتى تصل عند زوجها تماما، لاحظت العمة ذهول شريفة، فنظرت للأمام لتجد فضل هناك خلف نافذته، يترقب منتظرا حضور أحبته، أمسكت أم فضل بيد شريفة، وصارت تستعجل زوجها وأبناءها، تقدموا خطوات حتى وصلوا عند فضل تماما، رفع رأسه مرحبا بوالدته التي فاجأته بسحب شريفة أمامها:

- شريفة!!!!

وقف فضل على رجليه، لم يتوقع أن تحمل الجرأة زوجته حتى بوابة السجن! تبسم وقد امتلأت دنياه فرحا، والتصق بالجدار الزجاجي أمامه، وكأنه يدفعه عنه لعله يفوز بلقاء أحبته :

- هذي فعالك يا أماه ..!


تلاقت عينا الزوجين بعد طول فراق، والابتسامة ترفرف على قلبيهما، مدت شريفة كفها، كانت تريد أن تسلم على زوجها، لكن الزجاج بينهما أبى الا أن يحرمهما هذا الحلم الصغير! وعبر ثقوب صغيرة، صار فضل يزغرد ليزغرد من بعده بقية المعتقلين، عمت الفوضى المكان، واجتاح الفرح تلك الكبائن الضيقة، مخترقا الحواجز الزجاجية التي تمنع الأحبة عن أحبابهم، ما استفز العسكر الذين يراقبون هناك حركات العيون وسكنات الأيدي، يحاولون اقتناص أي محاولة التقاء بين المعتقلين وعوائلهم، يترصدون لأي لحظة فرح قد يتمكن أحدهم من نزعها رغم القيود. لم تكن شريفة تتوقع كل هذا التعقيد لتلتقي زوجها، ورغم أنها سمعت عن وجود حواجز مانعة بين المعتقلين والأهالي، الا انها لم تتوقع أن تكون الصلة بينهم عبر ثقوب!! كاد الحزن يغشى قلب شريفة، الا أن مرح فضل وزملائه وزغاريدهم بل محاولة أحدهم الرقص مازحا، رسمت الكثير من الفرح في قلبها، وبعد أن هدأ صخب فضل، صمت الجميع وصاروا ينصتون لشريفة، كانت تتحدث وتتحدث وتتحدث، أخبرت فضل أنها انتقلت لغرفته، وصارت تنام على سريره، وتستخدم دولابه، وتنظر لنفسها في مرآته، أخبرته كيف أن والدتها كانت سندها، ووالدته صارت درعها في غيبته، طمأنته أنها تعيش أياما جميلة تنتظر الحلم ليصبح واقعا، حين يأذن الله له بالفرج ليعود لبيتهما، ويستأنف حياتهما، ويكون لهما طفل يخبر العالم عن معجزات الإرادة البشرية حين تلتقي بالتوفيق الإلهي. لم تكف الكلمات شريفة في ذلك اليوم، ولم يتسع الوقت لفضل في تلك الزيارة، كان يراقبها وهي تتكلم دون توقف، شريفة الفتاة الهادئة التي كان يستميت لينتزع منها تصريحا، صارت تجيد اطلاق التصريحات، لم تفارق البسمة شفتي شريفة، لذلك كانت عودة فضل لزنزانته هذا اليوم مختلفة جدا، كانت مفعمة بالأمل، متشربة بالسعادة، من قال أن اللقاء لا بد أن يكون كفا بكف؟ أحلى اللقاءات تلك التي تكون .... عينا بعين ... قلبا بقلب .. روحا بروح!

لم يعد أبا فهد قادر على الاستقرار، وصارت نفسه تلح عليه لإعادة زوجته للمنزل، الا أن كبريائه وغروره لا يعيناه على ما أراد، منزله موحش دون شمعتاه أم فهد وشريفة، أما فهد فلطالما كان المنزل بالنسبة اليه مجرد فندق خمس نجوم، ينام فيه ويغير ملابسه وأحيانا يأكل، ومنذ أن غابت والدته وانقطعت عادة الطبخ فيه، صار البيت بالنسبة له مقتصرا على السباحة والنوم، أكثر من مرة حاول أبا فهد أن يطلب من ابنه التحدث مع والدته، كان يظن أن حديث الأم مع ابنها لا بد أن يكون مختلفا، وان تمكنت من أخذ عهد من فهد بعدم التعرض لأخته، فستنقذه من مهمة لا يريد أن يقوم بها، الا أن فهد أقسى من أن يحن على والدته.

رن هاتف أبا فهد، ودون أن ينظر للرقم الذي جاءه رد عليه:

- مرحبا ....

كانت شريفة على الطرف الآخر من المكالمة، منذ مدة لم يسمع أبو فهد صوت ابنته، ولم يكن يتوقع أن تتصل به:

- كيف حالك بابا؟

- ماذا تريدين؟

- ............

أجابها بكل جفاء، لكن سرعان ما رق قلبه لكلمة "بابا" هذه الكلمة لا يشعر بها الا مع شريفة، اما فهد فقدْ فَقَدَ معه شعور الأبوة مبكرا جدا، حتى أنه لم يعد يسمع كلمة "أبي" منه الا نادرا، استدرك أبو فهد رده :

- أهلا شريفة ...  

- بابا .. أعرف أنك تعيش أياما قاسية .. وأدرك أن ماما ورغم ارتياحها بمنزل خالي الا أنها تشتاق لبيتها .. لا ذنب لها فيما حصل .. أرجوك بابا .. عودا

- لقد عرضت عليها العودة ... فأبت

- لماذا تجبرنا على الاختيار بينك وبين أمور أخرى؟ لا تحرمها عائلتها .. ولا تحرمني والدتي أرجوك ..

- ..........

- بابا .. ألا تشتاق لابنتك؟


كاذب ان قال أنه لا يشتاق، كاذب ان قال أنه قادر على الحياة، دون الطعم اللذيذ الذي تضيفه شريفة وأمها لحياته، لم يكن أبا فهد يدرك أن صناعته لابنه بتلك الطريقة، ستجعل منه أول الخاسرين، للحظة فكر أبو فهد بأن يزمجر ويرعد ويصرخ في شريفة بل ويغلق الهاتف في وجهها، لكنه في ذات اللحظة أدرك أن هذه فرصته ليعيد زوجته مع شيء من كبريائه المجروح، همس لابنته:

- بلى أشتاق .. لكنك اخترت حياة أخرى

- لا زلت يا أبتي تصر على خلق جبهتين متصارعتين.. لست ضدك يا بابا .. ولم أشأ تحديك .. ولا أرغب بفراقك .. بل اخترت لي حياة كما اخترت أنت حياتك منذ ثلاثين سنة .. وكما فعلت أمي .. أبي كان يفترض أن تكون أكثر تفهما .. فقد مررت بذات التجربة.

- اذا .. فكما تسببت بخروج والدتك من بيتها .. أعيديها

- أنت الوحيد القادر على ذلك .. وتدرك الأمر تماما .. لم أر رجلا قادرا على مخاطبة زوجته والتأثير بها كما أنت

- لقد تغيرت والدتك .. يبدو أنها تأثرت بتمردك

- انما أنا من تأثرت بتمردها .. يقال أن التاريخ يعيد نفسه يا بابا .. لم يحصل شيء الا ان التاريخ عاد فحسب .. كان اسمها زينب .. فصار اسمها شريفة! فكر يا بابا .. الى اللقاء


أغلقت شريفة الهاتف، لتترك والدها في غمرة أفكاره المتصارعة، تتقاذفه يمينا وشمالا، اما أن يقبل فيخسر شيئا من كبريائه، أو يرفض فيخسر عائلته! عادت به الذكريات للتاريخ الماضي، حين وقفت زوجته بكل جرأة، لتجادل والدها ووالدتها حتى يقبلوا به زوجا، حينها كان علي في الجبهة المقابلة تماما ضد هذا الزواج، الا أنه ساهم في اقناع والديها بحقها في اختيار زوجها "لطالما كان علي أكثر نبلا منك يا أبا فهد!" في لحظة قرر أبا فهد أن يحسم صراعه، ركب سيارته وسار باتجاه بيت الحاج علي، ورغم أن المشهد الأخير هناك كان يعود لذاكرته، محذرا إياه من مشاهد تشبهه، الا أنه جد السير، لقد قرر حسم الأمر، سينهي عذابه الذي بدأ بتمرد ابنته، ولم ينتهي بتمرد زوجته، أحيانا نضطر لاختيار قرار نظن أنه القرار الوحيد الذي يمكننا الاستسلام اليه، قرار يحتاج للكثير من الجهد، والكثير من الجرأة، والكثير الكثير من العقل.  
 
 
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...