ابحث في مدونتي

الاثنين، 16 فبراير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (29)



 

 




 
في غرفة مظلمة قاسية البرودة، رُميت العمة شيخة، معصّبة العينين بقطعتيّ قماش، مصفدة اليدين، تُركت هناك وحيدة، تسمع صرخات المعذَبين، وأنّات المعلَّقين وشتائم الجلادين، ظنت أنها تسمع صرخات فضل! فصارت تصيخ السمع علها تتوثق من الصوت، وهي تتضرع لله بإلحاح أن تكون مخطئة، لكنها لوهله شعرت بأنانيتها!! "إن لم يكن هذا المتألم فضل، زوج ابنة أخي وواحد ممن صرت أعدهم كأبنائي فهو زوج لفتاة أخرى وابن لامرأة أخرى تتقطعان ألما عليه! إلهي الطف به وخلّصه من بين أيديهم". فجأة صارت العمة تسمع صوتا في الغرفة، لكنها لا تدري ما هذا الصوت؟ لعله أنفاس جلاد يستعد لينقض عليها، إنها تشعر به أمامها مباشرة، فزحفت قليلا للخلف لتصطدم بجدار!

- شيخة .. من الممكن أن نختصر المسافة بيننا فتخبريني بالحقيقة وأعيدك لمنزلك مباشرة .. ما رأيك؟

بصوت وجل سألته العمة:

- أية حقيقة؟

صرخة دوت مباشرة بأذنها "شيخة!!!". كانت أنفاس الصارخ تنثر رذاذا من فمه على جنبها، فجأة أحست أن من حولها مجموعة أنفاس، رائحة السجائر صارت تملأ المكان، الخطوات لا تتوقف من حولها، الباب يفتح ليقفل بكل قوة لتنتفض مع كل صفقة للباب، دب الرعب بقلب العمة، انها امرأة قد بلغت من العمر ما بلغت، فكيف تتحمل هذا الكم من الضغط والخوف!

- يمكنك أن تتذاكي علينا .. لكنك ستدفعين الثمن غاليا !

صوت آخر جاءها من الخلف بهدوء:

- يا شيخة .. تحدثي للضابط .. أخبريه كل شئ .. إنه رجل طيب وسيتعاون معك بمجرد أن تتعاوني معه!

كان الشخص قريب منها جدا، وكأنه يتحدث في أذنها مباشرة، وقفت متجمدة بمكانها، تخشى أن تتحرك ولو بمقدار شعرة، خوفا من الالتصاق بأحدهم، لقد كانت تشعر أن الغرفة مليئة بالجلادين!



ساعات طوال ظلت فيها هذه المرأة، في تلك الغرفة المظلمة، واقفة على رجليها، مصمدة عينيها، مكبلة يديها، تسمع الصرخات من كل مكان، من أفواه الجلادين حولها، من أفواه المعذَبين بالغرف الأخرى، كان لها نصيب من الصفعات التي تلقتها على وجهها، قريبا جدا من عينيها، صفعات لكنها كلكمات، يصوبها الجلاد نحوها براحة يديه، شعرت أن أصابع رجليها تكاد تتمزق، اذ يتعمدون الدوس عليها وفرك أرجلهم بها! كانت تنهار لتسقط فتسمع منهم صرخة مدوية تجبرها على الوقوف مرة أخرى:

- هل تعرفين أننا مجموعة في غاية الطيبة .. وأنه بعد قليل سنُستبدل بمجموعة شديدة، يخافها رجالكم يا شيخة .. فلننتهي ففي ذلك مصلحتك

صارت المرأة تجيبهم بدموع عينيها:

- ماذا تريدون مني؟

- اعترفي .. من الجهة التي تمولك لايواء المطلوبين وتمويل عملياتهم؟!!

- جهة؟؟ تمولني؟ عمليات؟؟ أنا لا أعرف أي شئ مما تقوله !!!!

صرخة أخرى توجهت مباشرة لأذنها اليمنى وسبقتها لطمة! :

- نعرف مدرسة ابنك .. ونستطيع أن نجره منها ونحضره هنا .. سنضربه أمامك وحينها حتى لو اعترفتِ فلن نتوقف ... هل تفهمين؟!



 
تبسمت السيدة شيخة فجأة، وغاصت في تفكير عميق "هكذا إذا يظهر الشباب على التلفاز ليعتذروا للجبابرة و ليعترفوا بجرائم لم نسمع لها حسيسا ولا نجوى!!". استفزت ابتسامتها الواقف أمامها، فصار يعربد ويتوعد، لم تعد العمة تسمع ما يقول، تذكرت أن والدة فضل أوصته بدعاء خاص فيما لو تم اعتقاله، حاولت أن تتذكره، حفرت ذاكرتها حفرا حتى صارت تتمتم "اللهم اني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة .. اللهم اني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة .. اللهم اني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة .. اللهم اني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة" رفع الوحش الواقف أمامها كفه، أراد أن ينهال عليها بلكمة جديدة، لكن صرخة أوقفته :

- توقف .. انتهى وقت التحقيق .. خذوها لمركز التوقيف

- بأي تهمة سيدي ..

- ايواء مطلوبين

تنفست العمة الصعداء، للحظات ظنت أن لا مخرج لها من هذا المكان، الا أن اللطف الالهي أحاطها مجددا، لقد أخبروها أنها ستعود غدا لنفس المكان، وأن بيدها أن تطيل مدة التحقيق أو تنهيه بأسرع ما يمكن، فقط عليها أن تقول " أنها تموّل من الخارج لإيواء مطلوبين وإحداث فوضى في البلاد!!!"

على بعد باب واحد فقط، كان فضل معلَّق في سقف الغرفة، كمن ولدته أمه، إمعانا في الإيذاء والإهانة! يتعرض للضرب بعصي بلاستيكية مزقت ظهره تمزيقا، كانوا يريدون معرفة مكان حسن!! بينما لا يعرف فضل أي تفاصيل عن رحلته ووجهته كاجراء أمني اتفق عليه الشابان، بل لم يكن فضل يعرف إن تمكن حسن من الفرار أم لا!! فالمسافة ما بين مغادرته للشقة ووصول العسكر كانت قصيرة جدا، أحيانا يعتقد فضل أنهم يسألون عن حسن إمعانا في تعذيبه! فتقوم مجموعة بضربه لمعرفة مكان حسن، ثم تحضر مجموعة أخرى لتخبره أن حسن يشارف على الموت في غرفة تقابله، وأنهم سيسمحون له برؤيته في حال اعترف بأن العمة زميلته في التنظيم، وأنهم يتلقون أموالا من الخارج لإحداث فوضى في البلاد!! وهو ما لا يمكن لفضل أن يقبل بالإعتراف به، لقد صرخ في أحدهم وهو يقول له:

- سأعترف بما تريد لكن حول نفسي .. لم تفعل السيدة شئ .. لم تكن تدري بأني مطارد!

هددوه بوالدته وشقيقاته، لم يتورعوا عن تهديده بإنتهاك حرمته، من أجل أن يزج بهذه المرأة الطيبة في سجنهم، لكن هيهات أن يفعل ذلك!

للتو شعرت السيدة شيخة بشيء من الراحة، لقد أخذت لسجن التوقيف، أخيرا تمكنت من الاستلقاء، أغمضت عينيها فطاف بمخيلتها حسن وفضل، لقد أخبرها زوجها أنهما بخير، لكنها تجزم أن الصوت الذي سمعته كان لفضل! فوضت الأمر لله، بينما لم تتمكن من الاستسلام للنوم، فموعد الغد يقض مضجعها، لقد أخبروها أن لها موعدا جديدا مع غرفة التحقيق!!



انفض جمّع الأسرة، فمع سماع صوت فضل وصوت شيخة، هدأ قلقهم بنسبة ما، وافترقوا يمنّون النفس بسماع خبر مفرح عن حسن، مفوضين الأمر كله لله.



 


عادت زهراء لشقتها لتحتضن وليدها "ترى هل سيكون لنا مع والدك لقاء يا ولدي؟ مالنا كلما أملنا تكسّرت آمالنا تباعا؟!..أستغفر الله ربي وأتوب اليه.. ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا".

كان منتظر غارقا في النوم، بينما جافى أمه سلطانه، توضأت في عتمة الليل، وأرخت يديها أمام وجهها، وصارت تناجيه مناجاة المتوسلين، تلك الليلة لم تطلب زهراء من ربها أن يعيد لها حسن، كانت تطلب منه أن يمنحها الصبر على البلاء "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ". استقرت بروحها دعوة، لكن لسانها كان يخونها كلما حاولت أن تنطق بها في حضرة الله، صراع خاضته زهراء، وهي على مصلاّها عندما تخيلت ما يمكن أن يجري على زوجها، وكأن قلبها كان يرجوا الله أن يمسك عن حسن العذاب وان بقبض روحه! لكن ثقتها ببارئها تمنعها من التصريح بتلك الدعوة "أو تظنين أن الله القادر على كل شيء عاجز أن يحفظ زوجك يا فتاة!!! كوني واثقة به وارفعي رأسك عاليا وأقسمي عليه بمحمد وآل محمد أن يحفظه من كيدهم" سالت دموعها على عينيها وصارت تدعوا الله، أن يسدد أبناء هذا الوطن وأن يحفظهم من كيد الظالمين.



غفت زهراء على مصلاها في تلك الليلة، ليوقظها رنين هاتفها، قفزت من نومها مفزوعة، فمنذ غياب حسن وهي تحتضن هاتفها طيلة اليوم، تراقب شبكة الارسال فيه كل حين، تتأكد من شحن بطاريته كل ساعة، حرّمت على نفسها وضعه على خاصية الصامت، لأنها كانت تحيا على أمل أن تسمع صوته! كان الرقم المتصل غريبا، ويبدو انه من خارج البلاد، تسارعت دقات قلبها، وتعثرت أصابعها على شاشة هاتفها، حتى وكأنها نست كيف ترد على المكالمات، تيار من الأمل والسعادة سرى في قلبها فأنعش أوصالها، أخيرا وضعت الهاتف على أذنها، أغمضت عينيها، وصارت تصغي بكل جوارحها لتسمع الصوت القادم عبر الأسلاك :

- زهراء ..

أجهشت بالبكاء حتى لم تكن قادرة على نطق كلمة من حروف ثلاثة، "نعم" قالتها بقلبها، فقد خانتها عضلة لسانها، كانت تريده أن يتحدث طويلا، لتصغي اليه كثيرا، تريد لقلبها أن يهدأ ويثق ويتعلم أن الله لا يترك عباده أبدا، وأن الألم مهما كان بالغا فان الأمل قادر على رفعه، بل قادر على دسه في التراب، أعاد حسن ندائه :

- زهراء .. هل أنت هنا؟

أخيرا تمكنت من فتح شفاهها، التي خرست من فرط سعادتها :

- اذا فأنت بخير يا أبا منتظر؟

- اتقلب بنعمة الله

عبارته تلك جعلتها تجهش بالبكاء، انها ذات العبارة التي نطقها فضل لشريفة، مع فرق شاسع في الموقع!! ان الشعور بالرضا لا علاقة له بما نمتلك بل يرتبط ارتباطا وثيقا بمن نؤمن!!

حدثها قليلا ثم استأذن منها:

- سأتركك الآن فللتو وصلت هنا وأريد أن أتصل بوالدك أيضا..لا أعرف بعد أين سأستقر.. لقد كادت رحلتنا تكشف لو لا أن عدنا واختبأنا في بيت أناس طيبين لمدة يومين ثم خرجنا مجددا، ظننت يا زهراء أن اعتقالي كان وشيكا، لكن الله كان حامينا وناصرنا .. أريد أيضا أن أتصل بفضل، ووالدتي .....

وكأن هذا الشاب، شعر بحريته للتو فصار كالطير الذي هرب من قفصه، واعتلى شجرته التي لطالما حلم بالوصول اليها، وصار يغرد ويغرد ويغرد دون انقطاع! "آه يا حسن لو كنت تدري أين فضل .. بل آه آه لو كنت تدري ما جرى على العمة.. أقسم بالله أني أخاف عليك من هذان الخبران.. كم يجيد هؤلاء الجبابرة وأد أفراحنا!" :

- اتصل بوالدي يا حسن .. سيكون سعيدا جدا بسماع صوتك .. بل ربما لن تسعه الدنيا من فرط السعادة ..

- كيف حال حبيبي؟؟

- منتظر؟ أم ف ...

ضحك حسن من عمق قلبه :

- فضل حبيبي .. سأحدثه بعد حين .. لكن حبيبي منتظر احتاج لتخبرني امه بأحواله ..

صمتت زهراء حائرة، هل تخبره عن صديق عمره وابن خالته ورفيق دربه؟ أم تتركه يعيش الفرح قليلا؟ لقد تركه بأمان الله وهو يرجوه أن يرافقه، وكأن حسن كان يستشعر ما حصل! اخفضت زهراء صوتها قليلا، وبصوت حانٍ نادت زوجها:

- حسن .. لقد كانت الأيام الماضية عصيبة جدا .. وقد حصلت الكثير من الأمور ........

وكأن حسن علم بما ستقوله زهراء، كان يلح على فضل بمرافقته، لأن قلبه كان ينقبض كلما فكر في تركه وحيدا، كان يستشعر أن ثمة خطر يحدق بفضل، خصوصا مع دخول فهد على الخط، بهدوء سألها:

- أخبريني .. ماذا جرى على فضل؟

- لقد اعتقل ....

- يالله .... متى حصل ذلك؟ وكيف؟ ولم بهذه السرعة!

- لا نعرف متى اعتقل بالتحديد .. لكن مضت عدة أيام ولا زالت أخباره منقطعة الا من اتصال يتيم واحد ..



وكأن سعادة حسن اغتيلت بخبر اعتقال فضل، وكأنه حن لبلاده وعذابها سريعا، وكأنه صار يتمتم لنفسه : "كيف تبقى هنا بعيدا عنهم؟؟!!!" فجأة صار منتظر يبكي، وكأنه ينادي أباه، فالأطفال يشتاقون أيضا :

- الله كم اشتقت لصوت صغيري .. قربي الهاتف منه .. اريد ان املأ قلبي بحلو صوته ..

كأن منتظر المنبه الذي أيقظ حسن، لقد ولد أملا من رحم الألم، ليثبت أن الدنيا تسير بمشيئة .. الله، فقط لا بمشيئة الجبابرة والطغاة، لقد شحن صوت منتظر قلب أبيه بالعزم مرة أخرى، قاطعت تفكيره زوجته: 

- أنا سعيدة جدا لأنك بخير .. وأثق أن فضل ينتظر هذا الخبر ولو دفع روحه ثمنا لتحققه .. 

- الحمد لله .. ثقي يا عزيزتي أن من أخرجني من السجن قادر على اخراج فضل .. سنقهر الظروف ان شاء الله .. أعدك أن فضل سيخرج قريبا بإذن الله ...
 
 

 
ألتقيكم في الحلقة القادمة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...