ابحث في مدونتي

السبت، 17 يناير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (10)

 
 
دخلت العمة وشريفة للقرية، صارتا تتجولان فيها، التحرك داخلها صعبٌ جدا، فقد امتلأت الشوارع بالأحجار والأثاث والأدوات، التي أحكم بها الشباب اغلاق بعض الطرق الداخلية، لم تتمكن العمة من التوغل بعمق القرية، اذ لا زالت المجموعات الشبابية تتوزع بداخلها، كما كانت أعداد العساكر تزداد، وأصوات الطلق يتتابع، الاجواء مخنوقة جدًّا، والعَمَّة حائرةٌ في أمرها، ترى أي سبيل تسلك؟ فجأة .. اقتحمت مدرعةٌ الأحياءَ الداخلية، وهي تطلق الغازات الخانقة، فدَبّ الرعب في قلب السيدتين، وتوقفتا في منتصف القرية تحيطهما الغازات من كل جانب، صار الشباب يصرخون طالبين منها التحرك بسرعة اذ انهم يعرفون أن المدرعة لن توقفها سيارة!!

في لحظة ما قرر أحدهم أن يذهب لمواجهة المدرعة أملا بأن تبتعد عن السيارة ومن فيها، فركض باتجاهها سريعا وصار يهتف (الله أكبر يا منتقم) وهو يرميها بحصيات من الارض وأخشاب قريبة منه، ارتفعت الاصوات في كل القرية، وصارت شريفة تصرخ: سيقتلونه يا عمتي سيقتلونه.

انحرفت المدرعة باتجاه الشاب الذي أسرع بالدخول لممرٍ ضيقٍ جدّا لن تتمكن من ولوجه، فتحركت العمة مسرعةً نحو ممر آخر كانت تظنه نهاية الطريق، فتلقفتها بعض السيدات وطلبن منها أن تترك السيارة للشباب ليبعدوها قليلا، ودعتهما للانتظار بالداخل ريثما تهدأ الامور، وهكذا فعلتا.

دخلت السيدتان لمنزل متواضع غاية في البساطة والترتيب، قدمت لهن سيدة المنزل شيئا من الحليب ليغسلا به وجهيهما الذي احمر من الغارات، استفسرت العمة عن سلامة الشاب الذي خرج لمواجهة المدرعة فطمأنتها السيدة من أنه بخير، علمت السيدة من لهجة شريفة وعمتها أنهما غريبتان عن القرية، فتبسمت لهما قائلة:
- ما لكم وقرانا ايتها السيدة، انها تمتلأ بسحب الموت
فأجابتها العمة:
- لنا فيها أهل وأحبة لا نرضى أن يصيبهمُ الأذى
 
احتضنتها السيدة بكل طيبة، فجأة اعتلت الأصوات وارتفع الصراخ، مصاب قادم في الطريق.

ادخلت فتاة في بداية العشرينات من عمرها، محمولة وهي تنزف دما عبيطا، ارتعبت كل النسوة، فلم يخطر ببال أحد أن يكون المصاب فتاة!!
سألتها العمة:
- ماذا فعلوا بك يا ابنتي؟
بصعوبة بالغة، وبصوت وجسد يرجفان أجابت الفتاة:
- لقد كنت أحمل الكاميرا لتصوير المدرعة، بينما تستهدف شابا كان يركض أمامي، اذ فاجأتني سيارة الشرطة من الاتجاه الآخر، فتح أحدهم بابه وقام بالتصويب نحوي، لقد ركضت لكني لم أجد نفسي الا على الارض لا اقوى على الحراك.
 
 
 
لقد استُهدفت هذه الشابة بطلقة غاز مباشرة وجهت نحو جسدها، اخترقت ذراعها وحفرته حفرا، فقد كانت تحمل كاميرا! كاميرا في بلاد تمارس فيه الجريمة تحت سلطة القانون، متخفية عن انظار الانسانية والمبادئ فلا بد أن تقطع يد حامل الكاميرا لأنه يمارس جريمة (كشف بشاعتهم)!
 
لم تنس شريفة فضل، سألتهم عن وضع القرية في الخارج، كانت تخجل من سؤالهم عن حالات اعتقال بشكل مباشر خوفا من أن يتوجسوا منها خيفة، لم تلق جوابا فالجميع منهمك جدا بمعالجة الفتاة في المنزل، فلا مستشفيات آمنة لتنقل لها الفتاة، كل مستشفيات البلاد تحت عيون السلطة، تراقب الداخلين والخارجين، لتقتنص أي "مجرم" تجرأ على الوقوف بطريق رصاصاتها!

كانت شريفة تراقب الاخبار عبر تويتر، لم يكن هناك من أخبار تفيد بأي حالة اعتقال، لقد انسحب الجميع من الشارع، فعادت السيدتان من حيث أتيتا بخفي حنين، فلا اطمئنتا على وضع فضل ولا تمكنتا من مساعدته، كلما حصداه كان وجعا جديدا يضاف لوجعهما، مشاهد ما كانت تخطر لأحداهما على بال، مكنتهما من التقرب أكثر من معاناة أهالي تلك المناطق وطيبتهم.

لم تعد شريفة للبيت، طلبت من عمتها أن تأخذها لمنزل خالها علي، كانت العمة مذهولة أيضا، لم تكن تتوقع حجم البشاعة، اذ تبقى التجربة أقوى من ألف صورة، توجهت العمة بشريفة الى منزل الحاج علي، الذي لمح سيدة تنزل ابنة اخته عند بابه، فوقف متقدما نحوها:
- السلام عليكم .. تفضلي يا اختي .
ابتسمت العمة للحاج علي:
- شيخة عندنا .. يا مرحبا تفضلي يا أم حسن
- حمدا لله على سلامتك يا حاج علي
- لم تحضري للبيت مع أبا حسن لذلك فلا بد أن تتفضلي تعرفين أن السلام على الاعتاب غير مقبول في بيتنا أو أنك نسيت

أمام إلحاح هذا الرجل الطيب، دخلت العمة لمنزله، وجلسوا جميعا يتحدثون عن ذكريات الجوار والزمن الجميل، العمة والحاج علي وزوجته وشريفة وزهراء وكل الفتيات، ثم همست شريفة بأذن خالها وكان موضوعها (فضل)، أخبرته عما حصل، فامتلأ قلب الحاج علي قلقا على الشاب، طمأنها أنه في حال لم يعتقل فبالتأكيد سيتصل به بطريقة ما، اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسرد لهم كيف كان شكل الفتاة المصابة وهي تتألم، وكيف كانت الدماء تسيل من ذراعها، وكم كانت بشعة اصابتها، والأدهى والأمر رفض الجميع توجهها للمشفى خوفا عليها من دوامة التحقيق وربما الاستهداف!
لكن الحاج علي تبسم قائلا:
- لا تبكي يا شريفة لقد أكرمنا الله اذ أننا شعب أبيٌّ عصيٌّ على الركوع للظالمين، لو كنا يا ابنتي مجرد رعاع يسوقها القوي بسلاحه لربما كانت الأمور في ظاهرها أهدأ لكن هيهات يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، لا تبكي يا ابنتي نحن اخترنا أن نكون عصاة على الكسر وهذا الظالم يستنفذ كل قوته من أجل كسرنا لا مكنه الله منا.
تبسمت العمة للحاج علي:
- لا زلت يا حاج علي كما أنت وأنا أقول لأبا حسن لقد كبرتما فاهدءا قليلا!

ربما تبسم الجميع وانشغل قليلا، لكن القلق صار يأكل قلب شريفة كلما مر الوقت، دون أية أخبار تفيد بتمكنهم منه أو تمكنه من الفرار منهم، كانت تفكر في الأيام القادمة، "هل يعقل أن نترك شابا معرضا لهذا الخطر يواجه مصيره وحيدا؟!" لقد علمت أنهم عادوا لمنزل فضل وعاثوا في منزله فسادا، وأن والدته أخبرتهم أنهم لن يتمكنوا من ولدها الذي لا يخشاهم، لقد اغضبهم شموخ هذه السيدة فما وجدوا الا رذاذ الفلفل والتهديد والوعيد ليسكتوا صلابتها!

أسرت شريفة لخالها عن استعداد عمتها لاحتضان فضل، فسعد كثيرا لذلك وهمس لها أنه سيدبر الأمر بين فضل وأبا حسن من بعد اذن العمة التي رحبت بذلك قبل أن تعود السيدتان لمنزلهما.
 
فتح فضل عيناه بصعوبة، حاول أن يتحرك لكن جسده المنهك لم يساعده على ذلك، انه يتألم من كل مكان بجسده، صار يتجول بعينيه في المكان، غرفة صغيرة خالية من الأثاث الا المرتبة التي ينام عليها،"هل يعقل أني في غرفة تحقيق؟!" دق قلبه بقوة وصار يحاول أن يتذكر ما جرى، يتذكر أنه انتقل من سطح منزل لآخر حتى اختل توازنه على وقع الطلقات التي استهدفته فوقع في ممر ضيق لا يتذكره، يتذكر أصوات البرقية والطلقات، وخبتت انفاسه وهو يتذكر كيف صارت الغازات تحيطه وتمتد لعمق مجرى تنفسه لتخنقه! ثم تذكر أن يدا صلبة قد سحبته لكن لا يدري الى أين!!

استبد القلق والتوتر بفضل، يريد أن يعرف أين هو، لا يعقل أن يبقى ساكنا في مكان لا يدري من أحضره اليه ولماذا؟! فكر أن يصرخ ثم تراجع عن هذه الفكرة، لربما خبأه أحدهم ولربما لا زالت العساكر منتشرة في الخارج، سمى بسم الله وصار يتمتم ( يا من تحل به عقد المكاره ويا من يفثأ به حد الشدائد)، وصار يكرر الصلاة على محمد وآل محمد مرات ومرات حتى هدأت روحه، بحث عن قارورة ماء فوجدها بالقرب منه، شرب شربة ثم حاول أن يغسل الدماء من يديه بحذر، يريد أن يبقي شيئا من القارورة تعينه على الوضوء، توضأ ووقف مترنحا يشعر بالاجهاد، " ترى من أين القبلة؟" فكر قليلا ثم انتصب رافعا رأسه لله، يصلي صلاة الشكر أنه لا زال واعيا، بينما هو كذلك انفتح باب الغرفة بهدوء، بهدوء لم يشغل توجه فضل نحو الله، انتهى من صلاته واستدار بسرعة نحو المتواجد بالداخل:
- الحمدلله على سلامتك يا ولدي
رجل وقور بعمر جده، تعلو قسمات وجهه معاناة الحياة:
- سلمك الله أيها الرجل الطيب، آسف يبدو أني أتعبتك معي
ضحك الرجل :
- وماذا فعلت يا ولدي، انت ابن من؟
أخبره فضل من يكون، فرحب به كثيرا، انه يعرف كل أخواله ووالده:
- ان أردت ان اضيفك فهذا بيتي المتواضع، لا يدخل علي فيه الا بناتي كل جمعة
- أشكرك جدا يا عمي لا بد أن أبقى هنا قليلا فألتمس منك العذر لكن يا عمي هل أطلب منك طلبا؟
- بالطبع يا ولدي .
بعد عدة أيام، طُرق باب بيت الحاج علي، فخرجت احدى بناته تنظر من القادم، كان رجلا وقورا كبير في السن، يسأل عن والدها، أدخلته للمنزل وأخبرته أن والدها على وصول، بقي الرجل منتظرا حتى دخل عليه الحاج علي، صافحه وقبله:
- لقد سمعت عنك كثيرا يا حاج علي لكني لم ألتقيك الا اليوم
- شرف لي ذلك يا سيدي
- أنا رسول فضل اليك
امتلأ قلب الحاج علي سعادة، وبلهفة صار يسأله عن أحوال فضل وصحته وان كان يحتاج لشيء، فدعاه لمنزله للقاء فضل مؤكدا على سرية الزيارة، وصف له المنزل وعاد من حيث أتى.
بقي الحاج علي أياما، يحاول لقاء فضل، لكنه كان حذرا جدا، فلم يخبر أحدا عن سلامة فضل وكونه في مكان آمن، حتى شريفة التي صار الحاج علي يدرك أن لفضل في روحها مستقرا ربما يحتاج لتقويم أو نصح أو متابعة.
هذا اليوم عزم "الحاج علي" على لقاء فضل، فاستخار الله وتوجه لبيت الرجل الطيب دون أن يُعلم أي أحد عن وجهته، طرق الباب ودخل حيث التقى فضل بحرارة، وجلسا يفكران:
- بماذا تنصحني يا حاج علي؟
- صاروا يطلبونك بإلحاح يا ولدي, هل تعرف السبب؟
- تعرف ان صديقي وابن خالتي حسن محكوم على ذمة بعض القضايا صحيح؟
- نعم اعرف ان احكامه وصلت لخمسة عشر عاما
- هذه المرة طلبت من أحدهم ان يطلع على ملفي فأنا اعرف انهم شملوني معه في بعض القضايا واتضح انه صدرت ضدي بعض الاحكام ولا زالت هناك قضايا لم يحكم فيها بعد
- اذا أنت مخير بين سجن نفسك في بلدك تتعرض للمداهمة كل مدة أو أن تدخل سجنهم
- بدأت افكر في خيار تسليم نفسي
- الامر محير، فحوادث الموت التي أودت بحياة بعض الشباب المطارد تجعلني أميل لخيار تسليم نفسك حرصا على سلامتك
- لكن من يبقى في الشارع؟ حسن في السجن وأبنا عمومتي وجيراني وصحبي وشباب القرية الاخرى الذين كانوا يشعلون جذوة الثورة، سيتمكنون منا يا حاج علي!
- فضل أخبرني يا ولدي أنت مستعد لماذا؟
- لكل شي يا حاج علي حتى للموت لكن ليس تحت سياط التعذيب بل وهم يستميتون للقبض علي
- اذا .. سنتجه للخيار الأصعب والأسلم.
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...