ابحث في مدونتي

الخميس، 15 يناير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (9)



 

صورة رقم (1)
 
 
أُفرج عن الحاج علي، فدخل قلب فضل شيء من الشعور بالأمان، ظن أنهم قد يتركوه بحال سبيله، كما حدث في بداية الحملة القمعية الأولى، لم يتمكن من منع نفسه من زيارة الحاج علي ولقائه بشكل مباشر، لقد تكبد هذا الرجل الكثير من العناء، ليتمكن من مساعدته في إخفاء نفسه رغم وجوده في المعتقل، كما أنه استضاف ببيته ابن خالته المقرب لنفسه "حسن جواد" على مدى سنتين كاملتين، يعامله بإحسان ويدفع عنه محن الزمان، رغم إدراكه لخطورة إيواء مطلوبين وهو ما كلفه اعتقال قاس وتعذيب لأيام، ثم حجز عن الدنيا الى أن شاء الله له الفرج.
اعتبر فضل أن هذا اليوم يوما مفتوحا له، فتوجه أيضا لزيارة والدته التي لم تره منذ ليلة المداهمة تلك، بُعيد اعتقال الحاج علي، قبّل يديها وذاق الزاد منهما أخيرا، وأقرّ عينيها بشيء من المزاح والشقاوة التي افتقدتها هذه الام، مع هجرة ولدها المتكررة من البيت، كم كانت سعيدة بزيارته لكن قلبها كان يمتلأ عليه خوفا، فكانت كل حين تطلب منه مغادرة المنزل، حتى قال لها :
- يبدو أنك اعتدت على فراق فضل يا أم فضل
فتبسمت له:
- لا تعتاد الأم على فراق فلذات أكبادها لكن ما يهمها أكثر من أن يكونوا أمام ناظريها هو أن يكونوا بخير.
استأذن والدته ودخل لغرفته التي علق عليها صور صديقه الشهيد علي المؤمن، ذلك الشاب الخلوق الذي قُتل وهو على أعتاب التخرج من جامعته كمهندس، حيث مُزّق جسده تمزيقا، تبسّم أمام الصورة بفخر، ثم صار يتنقل بين حاجيات غرفته، بضع تذكارات من أصدقائه المعتقلين، صنعوا بالصابون وبخيوط الصوف، وقبعة المهندسين التي لم يتمكن من ارتداءها بعد، فبعد اعتقاله في الانتفاضة السابقة قبل أكثر من عقد من الزمان، حيث بقي في المعتقل سنتان, اضطرته للانسحاب من دراسته ليستأنفها بعد الافراج عنه مع بداية الانفراجة، وهو ما أجبره على أن يتم تعليمه مع من يصغرونه سنا، حتى تمكّن بفضل إصراره ومثابرته من الالتحاق بالجامعة، وهناك التقى الشهيد المؤمن الذي كان يقدم الكثير من المساعدة للطلبة الآخرين، ويحثهم على الاهتمام بدراستهم والتمسك بمبادئ الحق والخير والفضيلة.
لم يتمكن فضل من منع نفسه من فتح جهازه، والولوج لعالم التغريد، حيث وجد العديد من الرسائل التي تنتظره، كثير من المغردين كانوا يتساءلون عن سر غيابه، وكثير منهم كانوا يدعون الله  أن لا يكون معتقلا أو مصابا بمكروه، قرر فضل أن يرد على بعض تلك الرسائل فكان الرد الأول من نصيب شريفة، تلك الفتاة التي استشعر فيها الإنسانية وطيب الخلق، مما دفعها لتحاول مساعدته مرارا، لقد أوصلت حسن لمنزل آمن كشفه عديمي الضمير والإنسانية.
كان فضل يشعر بالفضول تجاه هذه الفتاة، فقد كانت بعيدة عن الأحداث رغم وجودها في الميدان، ورغم قرابتها من الحاج علي، وهو صاحب التاريخ النضالي الطويل، لطالما شغلت هذه الفتاة باله، ولطالما شعر اتجاهها بالمسؤولية ، فرغم جمال أخلاقها وسرعة بديهتها الا انه كان يلمس فيها شيئا من الجهل، أو قلة الوعي على عدة مستويات، لقد خاض معها العديد من النقاشات الدينية والاجتماعية والسياسية، فكانت دائما تتساءل لم تطرح رأيها يوما، اللهم الا ضد ما يجري من انتهاكات إنسانية واسعة، لم تكن تعرف عن العملية السياسية شيئا، وكانت تجهل الكثير من القضايا المصيرية في الدين والدنيا، لكن حبها للتعلم كان مثيرا جدا، صارت تقرأ الكثير من المقالات والكتب على مدى العامين المنصرمين، فتحولت لشخص أكثر ثقة ووضوحا، ورغم أنها تتحاشى الحديث عن أسرتها، لكنها أسّرت له بكونها تعاني من مرض مزمن يقعدها أحيانا في فراش المرض، وبصعوبة بالغة حدثته عن ظروف زواجها ثم انفصالها، وهو ما وثّق شعور فضل تجاهها بالمسؤولية والاهتمام، فعلى هذا المستوى كانت تبدي نضجا يفوق عمرها، يبدو أنه كان نضج تجربتها الإنسانية.
 
 
لا زالت هذه الفتاة تصر على تقديم المساعدة له، ها هي تعرضها عليه مجددا، في كل رسائلها رجاء بأن يقبل منها هذا القليل، لقد أخبرته مرة أن شعورها بالعجز تجاه ما يحصل للناس يرهق مشاعرها، ومؤخرا صار هو في حيرة حقيقية من أمره، أيعود لمنزله مجددا آملا أن المطالبة به قد توقفت مجددا؟ أم يستمر في حياة التشرد التي عاشها على فترات متقطعة أنهكته؟ قد يقبل فضل السجن والابعاد والتشرد، لكنه جرب غرف التحقيق، ولا زال يسمع صوت السياط التي شوهت جسده وهو طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة، لا زال يستذكر كيف اعتقل هو وابن خالته الذي يكبره عمرا هو شقيق المعتقل حسن جواد، وكيف أجبر ابن خالته بعد أن صُمّدت عيناه ووضع القيد في يديه للخلف، على الركض من أول الغرفة بكل قوته، ليصل في نهايتها لفضل وهو مصمّد العينين مكبل اليدين للخلف أيضا وقد أُجبر على الاستلقاء على بطنه من أجل أن يركله على رأسه بكل قوة بينما هم يضحكون!!
 لقد واجهوا رفض ابن الخالة لضرب فضل، بالمزيد من الضرب بل والتعليق لكليهما، فكان الرضوخ لركل فضل هو المّر الذي قبلا به دونا عن الامّر، لقد كان يركض بكامل قوته ليركل فضل على رأسه بينما الدموع تتحادر من عينيهما!
لن ينس فضل ذلك، لن ينس الفلقة والتعليق آنذاك وهو طفلا، فما بال اليوم إن أُمسك وهو شاب مفتول العضلات!
لا يتخيل فضل أنه من الممكن أن يعيش فصول تلك التجربة ثانية، لكن السبل أمامه ضاقت، كثير من البيوت اعتقل أصحابها لأنهم كانوا يأوون مطلوبا لديهم، ليس آخرهم الحاج علي، فإن كان نصيب الحاج علي الافراج فآخرين كان نصيبهم أحكاما قاسية بعد اتهامهم بقائمة طويلة من القضايا، عقابا لتجراهم على احتضان الشباب، ثم إن دخل الجميع للمعتقل فمن سيُبقي جذوة الثورة مشتعلة في الشارع!!
هذه المرة أخبرته شريفة أن لديها فكرة محكمة للمساعدة في اخفائه، ظل حائرا أمام شاشة جهازه هل يطلب منها ان تخبره بتفاصيلها؟ أم يكتفي كعادته برفض مساعدتها بكل أدب؟ هي جديرة بثقته ورغم تواصله معها، الا انه يجد حرجا في طلب المساعدة منها، ثم ماذا تمتلك شريفة حتى تساعده؟ "اسألها يا فضل ما الضير من سؤالها؟ ولماذا ترفض مساعدتها؟ سيكون قبولك مصدرا لارتياحها" هكذا حدّث فضل نفسه، هذه المرة لا مفر من قبول مساعدتها، لقد سألها عن فكرتها تلك، لكنه وبمجرد أن ارسل الرسالة، جاءه اتصال عبر برنامج البرقية من شباب القرية، كانوا يطلبون منه الرحيل سريعا من منزله، سريعا جدا لدرجة أنهم نهوه عن طرح الأسئلة، فطلب من شريفة مسح المحادثات وهكذا فعل.


 
بسرعة ركب فضل سطح منزلهم، وذلك حتى يتمكن من مغادرته بسلام، بمجرد أن أطل برأسه للخارج من أعلى السطح، فوجئ بأعداد هائلة من السيارات، والمدنيين الملثمين وهم شاهري أسلحتهم عند أعتاب منزله، قذف فضل بنفسه على سطح بيت الجيران، لم يكن يعرف أنهم قد أحاطوا الحي بأكمله، فصار كلما رمى بنفسه على سطح بيت وجدهم أسفله، عادت لمخيلة فضل ذكريات التعذيب، فصار يحث الخطى للهرب، حتى لحظه بعضهم بالأعلى، فصاروا يطلقون الأعيرة باتجاهه، فَقَدَ فضل توازنه وسقط من أعلى سطح منزل كان قد وصله، كانت الدماء تسيل من ذراعيّ فضل نتيجة تسلقه للعديد من الجدران، شعر بألم شديد برجليه، لكنه وقف بصعوبة، لقد سقط في ممر صغير جدا بالكاد يكفي لشخص، فقرر فضل أن يجلس القرفصاء بعمق ذلك الممر، على أمل أنه ابتعد كثيرا، فجأة صار يسمع أصوات الطلقات تتتابع، لقد خرجت مجموعات شبابية من القرية لمواجهة القوات المدججة بالسلاح، على أمل أن يتمكن هو من الابتعاد، لكنه لم يكن يعرف ما الذي ينتظره؟ ظل حائرا في مكانه بينما انتشرت رائحة الغازات الخانقة وصارت تخنق فضل في مكانه.
 
لا زالت شريفة تتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي، محاولة البحث عن أي خبر عاجل، انتبهت لأخبار تفيد بمحاصرة احدى القرى، لكن لم يتم الحديث عن أي واقعة اعتقال، شيئا فشيئا بدأت تترشح أخبار عن ملاحقة شباب بتلك القرية! توقعت أن تكون تلك اذا محاولة لاعتقال فضل، رفعت سماعة الهاتف بسرعة :
- عمتي .. هل تذكرين الموضوع الذي حدثتك بشأنه؟
- أي موضوع تقصدين عزيزتي .. هوني عليك لا أكاد أفهمك حديثك
- عمتي أرجوك ركزي معي .. أو تعالي لتأخذيني من المنزل بسرعة
- أنا قريبة منكم .. استعدي واخرجي ستريني أمام الباب
بسرعة خرجت شريفة من بيتها وهي في قمة القلق، اعترضتها والدتها:
- ستخرجين الآن؟ للتو عدت!
- عمتي شيخة تنتظرني بالخارج ... أليست ممن تثقين به؟
- عمتك شيخة؟؟ جيد .. اذهبي.
تثق الأم أن شيخة لن تخفي عليها أمرا، لا بد أن تعرفه عن ابنتها، بمجرد أن ركبت شريفة السيارة، صاحت بعمتها:
 
- أيعقل أنك نسيتِ الموضوع الذي تحدثنا فيه؟
- اهدئي أولا ... ثم ان كان الموضوع الذي أظن فلا يجب أن تتحدثي عنه في الهاتف عزيزتي.
- هل يمكنك أن تأخذينا للقرية؟
- لم؟
أطرقت بحزن:
- يبدو أن الشاب الذي حدثتك عنه ووعدتني بمساعدته يتعرض للملاحقة الآن.
لم تعرف العمة بم تجيب شريفة، في الآونة الأخيرة صارت تخشى عليها كثيرا، ففي الوقت الذي تشعر فيه بالسعادة وهي ترى ابنة اخيها وصديقتها قد تحولت من انسان مغلوب على أمره، لشخص يفكر ويتساءل ويتخذ قراراته بجرأة، الا انها في ذات الوقت تخشى أن تذهب بنفسها بعيدا جدا يدفعها لذلك حماسها، وتعلقها بأهل أمها وربما هذا الشاب الغريب، الذي من الواضح أنها صارت متعلقة بمصيره، تتابع أخباره وتخشى عليه من كل المآسي التي يتعرض لها الشباب، همست لنفسها " لا ألومكِ يا شريفة فما يحصل يفوق التصورات ربما أصابك الانسان بالصدمة مما يفعل بأخيه الانسان لذلك لا بد أن أكون معكِ بكل خطوة"
 
- عمتي .. ما بك؟
- لنذهب عزيزتي .. أمرنا وأمره الى الله.
في هذه الاثناء صار فضل يسمع أصوات برقيات وخطوات تقترب، حالة الاختناق التي يشعر بها فضل تجبره على السعال، الا أنه حاول أن يكبح سعاله، فجأة انفتح باب لم يلاحظه لصغره بذات الممر، أصابه الذعر وكاد أن يركض مسرعا الا أن يدا تلقفته وسحبته للداخل.
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ..
 
________________
صورة رقم (1) من حساب الانستقرام ل:
@mohd_almirzaa مع الشكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...