ابحث في مدونتي

الاثنين، 26 يناير 2015

قصتي : حب في ن السياسة (16)

 
 
 
 
السِّجنُ يا طاغوتُ لا يقطعُ خيطَ الأملِ

السِّجنُ عــــِزٌّ للذي يرفضُ ذُلَّ الدُّولِ

لا نقبلُ العيشَ وفي الدَّولةِ طاغٍ أزلي

نريدُ حكمًا طاهرًا كحــكمِ مولانا علي(*)

 

خط حسن هذه الأبيات على جدار زنزانته، ليتركها مخلفا وراءه كتبه واشيائه وسريره الثنائي، الذي لم يتمكن من النوم عليه الا بضع ليال، في عدة أشهر بقيها في السجن، وذلك بسبب اكتظاظ الزنازين بالمعتقلين. هذه الأبيات انتقلت من غرفة لغرفة، نقشها المعتقلون بعزمهم وقوتهم على الجدران، ذلك أنها كانت تحكي حقيقة جلية، أن السجن والأمل صنوان متناقضان في بلادنا، فمن عمق الزنازين يتصدّر الأمل، ومن تحت القيود تتفجّر الحرية، هكذا انتزع حسن حريته من كبد جلاده رغما عنه وفي غفلة منه.
 
 
لقد عاش ومعه آلاف من الشباب ظروفا إنسانية قاسية، لا تختزل في ساعات وأيام التعذيب التي طالت عند البعض لعدة أشهر، لا تختزل في المنع من العلاج ومعاملتهم بأساليب حاطه بالكرامة، لا تختزل في شعور بعضهم بالعجز تجاه بعض، حين يُرمى أحدهم بزنزانة انفرادية لأنه رفض معاملتهم، أو دافع عن أخ له يشاركه زنزانته، لا تختزل في كونها "معاناة" بل "انتقام" منهم لأنهم ينتمون ويرفضون ويحلمون، لم يكن أحد هؤلاء الشباب يحب السجن، لكنه صار أحب اليهم مما يُدعَونَ اليه!
 
 
في الأشهر القليلة الماضية، ضاقت على حسن الدنيا بما رحبت، لقد تعرض عنبرهم للاقتحام أكثر من مرة، وفي كل مرة كانوا يتعرضون للضرب والركل والإهانة، لم يكن الانتقام منهم ومعاقبتهم يستلزم أن يصدر منهم أي تصرف يستفز جلاديهم، كانت انفاسهم استفزاز! لقد حاول المعتقلون أكثر من مرة أن يعقدوا مع جلاديهم هدنه، الا انهم يصرون على استفزازهم، هذه المرة مزقوا كتاب الله وكسروا الترب الحسينية فثارت ثائرة الجميع، وفي سبيل كبح جماح ثورة المعتقلين، ضُرب من ضُرب وجُرح من جُرح ونُقل للزنازين الانفرادية من نُقل، عقابا لكرامتهم التي أبت أن تلتزم الصمت. ظل حسن يعاني من جراحاته ساعات طويلة، حتى جاء الأمر بنقله للمستشفى وهناك، تنفس الشاب عبق الذكريات، وعبر الشوارع تذكّر حريته التي خلفها على أعتاب زنزانته، فجأة صار يسمع صوت زهراءه يناديه. يعتقد حسن أن أيام السجن ستكون طويلة فلا بوادر انفراجه في الأفق، انه شاب يجيد المقاومة فقرر أن يستنهضها من داخله مجددا، فكان له ما أراد!
 
 
 
 
 
بمجرد أن اختلى سريره، جن جنون جلاديه، فانتشروا حول محيط المستشفى، وداهموا منزل والده، ومنزل زوجته ليعتقلوا والده وشقيقه وزوجته ووالدها، في سبيل سحب معلومة تفيد بمكانه أو تُقر بمن أعانه على ما فعل، لكن لم يكن أي أحد يمتلك معلومات من الممكن أن تفيد بمكان هذا الشاب، وطبعا دفع زملاء حسن في الزنزانة ثمن جرأته، فاقتُحم عنبرهم من جديد ليتعرضوا جميعا للضرب والركل، ومصادرة الطعام والنقود، بل وحلاقة شعر بعضهم تماما زيادة في التنكيل بهم! كانوا يهدفون لزرع النقمة في نفوس هؤلاء الشباب على زميلهم، كانوا يريدون إشاعة الإرهاب والخوف من التفكير بالاقتداء به، لكن كلمة أحد الشباب رفعت مستوى غضب إدارة السجن أكثر حين قال:

- هنيئا لك يا حسن حماك الله
 
 
فأُقفلت عليهم أبواب الغرف، ومنعوا من الخروج لساحة اللعب التي لطالما حرموا من التنقل فيها! فكانت تلك الأبيات مجددا سلوتهم، يقضون أوقاتا شامخة بينما يرددونها رغم كل شيء ليسمعها جلادهم خلف قضبانهم، يقول السيد محمد حسين فضل الله: "الحرية لا تنطلق من الآخرين، بل إنها تنبع من ذاتك، حتى لو أُدخلت في الزنزانة وبقيت إرادتك حرة فأنت حر، بينما إذا لم تكن إرادتك حرة، فأنت عبد حتى لو انطلقت في الفضاء. القضية هي حرية الإرادة لا حرية الموقع. يقول الامام الصادق (ع): "إن الحر حرٌ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقهر".

 

ها هي الأيام تمضي، وها هو الحاج علي يرى حلمه يتحول لحقيقة أمام عينيه، ها هو فضل يخط حماسه على ورقه، ويستثمر حريته في خدمة بلده، ها هي زهراء تزأر منادية بمبدأ (البناء)، يعينها على ذلك زوجها حسن، أما شريفة فقد كانت نبتة غرسها ويرعاها خالها وفضل، نبتة صارت تكبر سريعا ويكادون أن يقطفوا ثمرها، نبتة صارت تستثير اعجاب الجميع ومن ضمنهم فضل، الذي صار يخبرها مرارا أنها لم تعد بحاجة لمراجعته، لكنها لا زالت تصر على ذلك يدفعها شعورها برعايته وصراحته وشفافيته، ولا زال منزل الحاج علي يتعرض للمداهمة أحيانا فهروب حسن يقض مضجع الجلاد، انه يحتاج لإعادة حسن لزنزانته ليستعيد شيئا من غروره الذي أهدره هذا الشاب!
 
 
 
 
 

بشيء من التنظيم والحذر، غيّر فضل مكانه ليكون مع ابن خالته، وبتنظيم أكثر وحذر أكبر، صار الشابان يخرجان ليشاركا ببعض الفعاليات والأنشطة، كان الحاج علي يخشى كثيرا عليهم من حركتهم تلك، وقد حذرهم مرارا منها، الا ان حماس الشباب يمنحهم الجرأة للمجازفة، لقد اشتاقا كثيرا للزيارات والتجمعات العائلية، فقررا يومها أن يكونا بين أحبتهم. في مكان ما تجمع الحاج علي وأسرته مع فضل وحسن وأسرتهما، وكانت هناك شريفة أيضا، كان الشابان بعيدين في جلستهما عن بعضهما، لكن كثيرا ما تلاقت عيناهما ليدرك الاثنان ان لدى كليهما كلام محبوس يخشيان البوح به!

 

لم تعد شريفة قادرة على الاستغناء عن مشاورة فضل بكل صغيرة وكبيرة، فمرة تسأله عن علاقتها بوالدتها، ومرة تبوح له بالغبن الذي تشعره بسبب شقيقها، وأحيانا تغالب مرضها بكلمات فضل التي صارت تبلسم روحها، كم كانت شريفة تتوق لتعرف مكانتها في نفس فضل، الا أن هذا الشاب يتكتم جدا على مشاعره، هي تفهمه تماما فهو يعتقد أنه لا يملك حتى نفسه، فقد نذرها لقضيته، فكيف يهب لها شيئا لا يملكه؟! كان الحاج علي يعرف ما يدور حوله، لكنه أيضا لا يملك للشابين شيئا، لقد طلب من شريفة أن تفكر دائما بعقلها، وان تضغط على زر اقفال مشاعرها، مؤكدا لها أن ما يجمعهم أمر يتفوق على المشاعر، انها تعي تماما خوف خالها، لكن أو ليست زهراء وحسن جزء من هذا المشروع؟ ألم تجمع هذان الشابان مشاعر نبيلة زادت حماسهما وقوت عزيمتهما؟ لم لا يسعى فضل ليكون كحسن؟

 

يتألم فضل كلما شعر أن على لسان وبقلب شريفة تساؤل يعجز عن الإجابة عليه، هو يدرك أنها مستعدة لدفع عمرها ثمنا للإجابة عن سؤال: "من تكون شريفة في نفس فضل؟" وهو قادر تماما على اجابتها لكنه لا زال يخشى كثيرا من مغبة البوح، يتساءل فضل كثيرا ان كانت شريفة تعي "ثمن" سُكناها في روحه، وثمن "مشاعرها" تجاهه، هو يعرف أن شريفة َالامس تختلف عن شريفة اليوم، فالخوف والاستسلام سمتان داستهما شريفة برجليها حتى لفظا انفاسهما الأخيرة في روح هذه الشابة، لكنه يخاف أن يُبعثا من جديد في روحها لو نطق بمشاعره تجاهها، أتراها تقوى على محاربة مجتمعها؟ أتراها تقوى على طردها من حنان الامومة؟ أتراها تتمكن من تصور حياة المطاردين والمشردين حتى تكون منهم؟! ربما تعيش شريفة بقرب زهراء مطلعة على صعوبة حياتها، فكيف ستقبل لتحيا مثلها؟

يعيش هذان الشابان ضمن دائرتين كبيرتين تتقاطعان عند مشاعر (الخوف) فيخشى هو أن يتقدم نحوها خطوة، وتخشى هي أن تخبره أنها قادرة على دفع ثمن اختيارها له!

 

كان الجميع يتجاذبون أطراف الحديث، وضع فضل رأسه في حضن والدته وصار يداعبها أمام الجميع، لقد أوجع المنظر الحنون قلب شريفة، فمنذ مدة لم تعد تضع رأسها في حضن والدتها، أما حسن فكان يحمل اخته الصغرى ذات الخمسة أعوام بشوق، وهو ينظر لبطن زوجته الذي صارت تخفيه عن أعين الجلادين، خوفا من معرفتهم ببذرة الحب التي زرعها الله في رحم زهراء. لقد اشترط الحاج علي أن تكون تلك الأمسية أمسية عائلية بامتياز، وحين دعا الاسرتين دعاهما بسرية تامة ودون أن يخبرهم بأنه يخبأ لهم مفاجأة هي وجود حسن وفضل بينهم، لقد أصر الحاج علي على انهاء الأمسية قبل موعدها، في ظل رفض الجميع:

- دعنا يا حاج علي فلم ترتوِ انفسنا من ولدينا

هكذا ترجت أم حسن الحاج علي ليبقوا زمنا أطول، لكنه أخبرها أن عيون الأعداء لا تغمض، وأنه يريد أن يفوِّت عليهم أي فرصة للانقضاض على حسن وفضل، فكان له ما أراد. انفضّ جمع العائلة تدريجيا من المكان الذي تجمعوا فيه، وأصر الحاج علي أن ينتقل فضل وحسن كل على حدة زيادة في الاحتياط، فان عثر على أحدهما لا سمح الله، تمكن الآخر من الإفلات، فانتقل فضل في سيارة مع أحد افراد اسرته، وانتقل حسن في سيارة أخرى مع فرد آخر، وتوجهوا للمكان الذي صارا يقيمان فيه مؤخرا.
 
اثناء عملية النقل تلك، لاحظ أحدهما أن سيارة صارت تلحق بهم، فخشيا التوجه للمكان مباشرة لئلا ينكشف، فغيرا طريقهما الا ان السيارة ظلت تلاحقهما، أجرى فضل بضع اتصالات سريعة بوسائل تواصل غاية في الأمن، وصارا يسيران على غير هدى، دب الرعب في نفس سائق السيارة وصار فضل يطمانه: "سنجد حلا حتما فقط أريدك أن تتوجه لمنطقة الحدائق تلك تعرفها حتما؟" رد الشاب بالإيجاب وتوجه لتلك المنطقة، توغل الشابان لعمقها محاولان تضييع تلك السيارة، الا ان اعداد السيارات زاد، وفجأة انبثقت الانوار منها، وصاحت صفاراتها عاليا، أدرك فضل أنه كمين لاصطياده، فطلب من سائق السيارة أن يتركها ليهربا، فقذفا نفسيهما من السيارة وصارا يركضان، فجأة ارتفعت أصوات الطلقات، حاول الشابان الهرب والابتعاد، لكن يبدو أن رصاصة نجحت بالوصول لأحدهما معيقة تقدم الآخر، فقد كانت الصرخة مدوية تحكي حرارة الألم..!
 
ألتقيكم في الحلقة القادمة ..
 
___________________________________
(*) الابيات من نظم الشاعر محمد المخوضر "أبو مقداد"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...