ابحث في مدونتي

الخميس، 8 يناير 2015

قصتي : حب في نون السياسة (2)





توجهت شريفة مرة أخرى ناحية مبنى الطوارئ، وأثناء مشيها نحوه كانت اندفاعة قوية قد قدمت من الخارج أرعبتها، جمع من الشباب يصرخون طالبين الإفساح عن الطريق، وجمع من النساء زاد عويلهن، مر أمامها شاب في مقتبل العمر ممدد على سرير أحمر!  بل أبيض إستحال لأحمر من نزف الدماء! .. لقد تهتك جسده تهتكا، نظرت إليه والدماء تسيل من كل مكان من جسده، بقت واجمة .. ساهمة .. تنزل الدموع من عينيها دون إدراك، توجهت لتلك الغرفة وبقيت واقفة، تشهد بأم عينيها دخول المختنقين والمذعورين، والمصابين بآلات حادة، والمجروحين بالرصاص، بل والقتلى، جرحى من النساء والأطفال والشيب والشباب، طافت بذاكرتها أخبار فلسطين وكأن غزة نُقلت سريعا كعرش بلقيس من هناك الى هنا! !

استمرت بالوقوف هناك، ترقب الوضع بقلب يأن وجعا، وبعين لم تتمكن من التوقف عن البكاء، من بعيد لمحها طبيبها المعالج، توجه ناحيتها وهو يرتدي القفازات والقناع، ورداءا شفاف فوق بدلته: 

- شريفة .. ما الذي يوقفك هنا؟
نظرت إليه وبعينين دامعتين اجابت :
- ارقب أبناء وطني

أشفق عليها كثيرا، طلب منها التوجه لسريرها :
- لا بأس عليك، اذهبي لتستريحي، أنت في وضع يرثى له، ونحن كذلك، اذهبي كان الله في عوننا جميعا ..

منذ أن جاء هذا الطبيب الشاب لمباشرة علاجها، لم تلقاه إلا ووجهه باسم، تلك كانت المرة الأولى التي تراه فيها بهذا الذهول والحزن، حتى مشيته وهو مبتعدا، لم تكن مشيته وكأن الحزن أثقل حتى ركبتيه، فإنحنى ظهره مكتسبا فوق عمره سنوات ..

ذهبت شريفة لسريرها، ألقت جسدها النحيل عليه، واستسلمت لنوبة بكاءها المائة، ربما، م تعد تدري، فدموعها لم تعد ملكا لها، بل ملكتها تلك الجراحات التي أصابت قلبها وروحها وانسانيتها، ملكها أولئك الشبان الذين جاءوا يحملون على أكتافهم أخوة لهم، في أحيان كثيرة لم يكونوا يعلمون ما اسماءهم حتى... ثم لم تعد تشعر بشئ ..

عادت شريفة لواقعها، مسحت دمعة أبت الا أن تنزل على خديها، ونفضت عنها تلك الذكريات المؤلمة، ووقفت باسمة، تنظر للمنصة التي اعتلتها فتيات صغيرات ينشدن شعرا، كم تعشق هذه الأصوات والضحكات والخجل البرئ، اتسعت حدقاتها وانكشفت اسنانها من فرط التبسم وهي تنظر لهن، ثم فجأة .. كان هو أمامها مباشرة ..:
- تفضلي أخيتي
نظرت لما بين يديه، كان يوزع الماء، تبسمت له وشكرته، ثم كعادته ذهب مبتعدا تملأه الحماسة والحيوية. 


مرت الشهور والأيام حيث استحال الحال غير الحال، شريفة وبكل خوف ترقب اخبار الوطن، بين محطات الفضائيات أو عبر الصفحات الالكترونية، تخبأ عن أهلها وجعا لا تعرف اسمه (شاب ،، او تراه وطن)!

بينما كانت شريفة، تقلب احدى الصفحات الالكترونية، لاحظت صورة من أرادت وقد أُحيطت بدائرة حمراء كتب عليها: هذا الارهابي مطلوب لرجال الأمن، فقط اكتب اسمه /عنوانه/ واترك الباقي عليهم! وأسفل الصورة كان هناك متبرعا كتب في رده على الطلب :هذا زميلي السابق بالجامعة فضل حسين جابر! !

أُسقط بيدها! !

فجأة هوى قلب شريفة وبدأت نبضات قلبها بالتسارع، عن أي إرهابي يتحدثون؟كنت أرى ذلك الشاب الوادع يوزع إبتسامات وماء، أتحول توزيع الابتسامة بعد عهد رسول الله من صدقة لإرهاب!!!
ترى كيف تعرف اخباره؟هل صار في زنازينهم؟هل أصابته رصاصاتهم؟كيف من الممكن أن تصل اليه، ومنزل العائلة الهادئ صار مجلسا للتهكم والسب والشتم لمن تجرأ وزار تلك البقعة، حتى هي وشقيق والدتها ذلك الستيني الذي إعتاد على مقارعة الظلم منذ نعومة أظفاره، فقرر والدها مذ وعت على وجه الدنيا أنّ على والدتها ترك شقيقها، وعليهم جميعا مقاطعته بل مقاطعة كل أفراد عائلة أمها. 

كيف السبيل لخالها الآن؟في السابق كانت تخرج دون علمهم، تسرق ساعات من عمرها بذلك المكان تحت رعاية خالها، تستمع للخطب والشعارات، تعيش بين عفوية الناس، هناك رأت عالما مختلفا جدا، ليس كما كان يقال لها مطلقا، ليس كما اعتقدت يوما!! (كيف السبيل لك خالي؟كيف السبيل لك (فضل)..)

ايام طوال قضتها تلك الشابة وهي تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي، تفتش بين أسماء القتلى والمعتقلين، دون أن تجد خيطا واحد صغيرا يريح انشغال بالها، وفي لحظة نفاذ صبر، قررت شريفة أن تلجأ لخالها، خالها الذي أنجبه ذلك العالم، فما انفصل عنه قط، خالها الذي قضى سني عمره إما مهجّرا أو معتقلا، خالها الرجل الوحيد الذي أجاب عن كل أسئلتها، برحابة صدر وابتسامة، حيث ورغم كل الوجع لم تسمعه يشتم مخالفا معه قط، لم تسمعه يسئ لوالدها أو عائلته أو سيرته، بينما أوغل والدها قلوب الأسرة كلها ضد أخوالها، وقريتهم وسيرتهم وانتمائهم! كان خالها يخبرها وبعينيه لمعة فخر، أنه تربية المآتم التي تخلت عنها والدتها خوفا وحرصا على أبيها!

هي تدرك أن خالها الوحيد، الذي يمكنه مساعدتها، لكنها تخشى في قرارة نفسها أن تتواصل معه، تخشى على نفسها، وتخشى عليه أكثر، فهو مهدد أصلا بالاعتقال كل حين. 

بقيت شريفة في حيرتها طويلا، حتى قررت أخيرا، أنّ كل ما عاشته في الأيام الماضية، يستحق أن تجازف، أدارت رقم خالها فجاءها صوته :
-مرحبا
-خالي علي ،،، كيف حالك؟ابنة اختك ستموت قلقا عليك
-اهلا عزيزتي ،، انا بخير ،، ألم نتفق أن تتوقفي عن التواصل معي حتى تهدأ الأمور ،،هل حدث لك مكروه؟
-أنا بألف خير، فقط ادعوا لك بالسلامة لكن ،،،
-لكن ماذا يا شريفة؟افصحي يا ابنتي
-خالي أود أن اسألك عن أحد ما وأرجوا أن تتفهمني
-بالطبع عزيزتي
أخفضت صوتها وهمست، بالكاد التقط خالها قولها:
-شاب لطالما رأيته في الميدان، وجدت صورته منشورة، ويطلبون معرفته لاعتقاله، اسمه فضل حسين جابر ..
أجابها بمزحة وأسى: 
-كل الشباب والشابات نشرت صورهم وأسماءهم ياابنتي، إسأليني عن اسم لم ينشر وقد اجيب! 
-كيف نتأكد من سلامته؟
بأسى أكبر وبغصة قلب أجابها:
-ابحثي عن اسمه بين الشهداء والمعتقلين، فإن لم تجديه، فابتهلي لله أن يكون بخير وأمان. 

اغلقت شريفة هاتفها وقد أُثقل صدرها أكثر، أملها الوحيد بعد الله كان خالها علي، لكنه لا يعرف الشاب !!

في اليوم التالي وكعادتها ركبت شريفة سيارتها، متجهة للمركز الصحي الذي تعمل فيه ككاتبة، مرت على عدد من نقاط التفتيش التي كانت تتجاوزها ببساطة، بينما يتكدس عندها جمع من السيارات يخضعون لتفتيش دقيق، ولطالما شهد سمعها سيل من الشتائم، حين تتقاذف على بعض المارة، عبارات طائفية مقيتة، تعدٍ على حرمة الدين والإنسان، واهانة للكرامة الانسانية مع كل مدة يد لرجل أمن بإتجاه خد سائق، غير آبهين بالاطفال الذين يرقبون صفعات وجه أبيهم!  كانت تتساءل، هل تراها انسانة محظوظة لأنها في مأمن من ذلك كله، أم تراها الأتعس، فقد مُيّزت عن أبناء وطنها دون أن تستحق ذلك!!

بروتين كئيب جلست شريفة على مكتبها، ترد على بعض المكالمات، أو تسجل بعض المواعيد، وأحيانا تضطر للابتسام بوجه العسكر، الذين صاروا يترددون على المركز الصحي بعد حصاره بذات نهار، واقتياد جمع من موظفيه بل وضرب أطباء محترمين تكن لهم كل تقدير واحترام، وتقييدهم رجالا ونساء، ثم إخفاءهم أياما، ولا يجرأ أحدا عن السؤال عنهم، او منع نا يجري عليهم. وبينما كانت ساهمة تفكر، أطل عليها من فتحة الزجاج وجه لطالما إنتظرت طلته ...

فضل!!!

كادت تتراقص فرحا حين وجدته أمامها بكامل سلامته، بسرعة وترقب دفع بطاقته الشخصية لها، طالبا أن تدخله على وجه السرعة لعيادة الاسنان، أخذت بطاقته وسجلت رقمه السكاني :
-جاسم حسين جابر؟ سألته بدهشه! 
فهز رأسه بإيجاب يملأه التوتر، رفعت بصرها اتجاهه: 
-ألست فضل؟
ارتفعت وتيرة توتره، لم يجبها لكن تقاسيم الخوف التي اعتلت وجهه أجابت عن سؤالها: 
-هل تذكرني؟ كنت دائما هناك مع خالي علي ال..... 
 
خشيت أن تكمل اسم خالها، لكن تقاسيم فضل هدأت قليلا ثم تبسم واجابها: 
- أظنني أذكرك
-هل يمكنني محادثتك في وقت لاحق؟
-لا أستخدم الهاتف
- بأي وسيلة
أخذ القلم وسجل اسمه الذي يستخدمه في عالم التغريد، ثم ذهب مسرعا ..


يتبع في الحلقة القادمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قف.. فكر.. قرر بوعي

  نسمع كثيرا عن مفردة (الوعي) ونُدعى كثيرا لأن نكون (واعين) بل وحتى في أحاديثنا المعتادة نطالب أن يكون الآخر مالكا-لوعايته الكاملة (تعبير دا...